انطلقت صناعة النفط الصخري الأمريكية على طريق جديد، مع توصل إنتاج النفط الصخري إلى نحو /8/ ملايين برميل يومياً في كانون الأول 2018، ما زاد الإنتاج الأمريكي الصخري والتقليدي إلى رقم قياسي بلغ /12.2/ مليون برميل يومياً.
ورفعت الطاقة الإنتاجية العالية للولايات المتحدة، بفضل النفط والغاز الصخري، شهية الشركات النفطية الأمريكية العملاقة للاستثمار في هذه الصناعة الجديدة بدلاً من حصرها بيد الشركات الاستثمارية الصغيرة التي بادرت بإطلاق صناعة البترول الصخري تجارياً، وأخذت شركة «اكسون موبيل» و»شيفرون» وغيرهما من الشركات العملاقة بالاستثمار في هذه الصناعة، ما وفر زخماً قوياً كانت الصناعة والشركات بحاجة لها.
الشركات الاستثمارية كانت بحاجة ماسة إلى التمويل الضخم لصناعة البترول الصخري، والشركات العملاقة بحاجة إلى مصادر نفطية ضخمة جديدة ذات إمدادات كثيفة لتوسع هيمنتها على الأسواق الدولية، من دون الحاجة إلى تبني سياسات «أوبك» وحلفائها في توازن الأسواق، ما يؤدي إلى خفض الإنتاج في بعض الأحيان، وهذا ما هو حاصل فعلاً خلال النصف الأول من هذا عام، ولربما يمتد خفض الإنتاج إلى نهاية عام الحالي، بناء على حجم المخزون النفطي التجاري.
لكن تحاول «أوبك» والحلفاء خلال النصف الأول من هذا عام خفض الإنتاج /1.2/ مليون برميل يومياً لتقليص الفائض النفطي التجاري الذي تغذيه زيادة الصادرات النفطية الأمريكية، فهدف «أوبك» وحلفائها منع تكرار ظاهرة تدهور الأسعار كما حصل بين عامي 2014 و2016، من خلال تقليص الإنتاج، ولكن الولايات المتحدة التي ترفض لأسباب سياسية وقانونية التعاون مع «أوبك» وتتبنى في الوقت ذاته سياسة ثلاثية الأبعاد، وهي زيادة الحصار ومقاطعة بعض الدول النفطية لأسباب سياسية، مثل إيران وفنزويلا، ما يقلص الإمدادات العالمية ويزيد من الأسعار، في الوقت ذاته الذي لا ينفك الرئيس دونالد ترامب التغريد أن الأسعار عالية ومضرة للاقتصاد العالمي.
تخمة في المخزون العالمي
انتهزت الشركات الفرصة التي أتاحتها لها صناعة النفط الصخري بزيادة الإنتاج والصادرات في الوقت نفسه الذي تقوم به «أوبك» وحلفاؤها بتقليصه، الأمر الذي أدى إلى التخمة في المخزون العالمي مرة أخرى خلال هذا العقد.
لقد أصبح من الواضح أن الإنتاج الأمريكي المتزايد يحل محل التخفيضات التي تتحمل مسؤوليتها وتنفذها أكثر من غيرها كل من الدولتين المنتجتين الكبريين في التحالف، أي السعودية وروسيا، وستشكل هذه السياسات المختلفة بل المتناقضة فرصة لدول التحالف لاستقرار الأسواق بالسرعة اللازمة.
من المعروف أن سياسة دور المرجح تتحمل نفقاتٍ عالية جداً، منها تخفيض الإنتاج من بعض الحقول والآبار لفترة طويلة، من ثم سيشكل غياب تنسيق السياسات مع الدول الثلاث المنتجة الكبرى إلى امتداد فترة الدور المرجح لمنظمة «أوبك» وحلفائها، وبالفعل اشتكت وعارضت بعض الشركات الدولية عاملة في أقطار «أوبك» من تبني الدول المنتجة تخفيض الإنتاج التي تقررها «أوبك»، وقد تكررت هذه الاعتراضات من بعض الشركات في روسيا نفسها، نظراً لالتزام الشركات بمواعيد كانت قد اعتمدتها لتطوير الحقول.
اكتشاف حقول ضخمة
أخذت تبرز القوة الجديدة للشركات من خلال الاستثمارات الواسعة والاكتشافات الضخمة خلال عامين الماضيين، لكنها أصبحت بارزة وواضحة للعيان مع مستويات الإنتاج القياسية الأمريكية في الآونة الأخيرة، وتدل التوقعات أن ولوج الشركات صناعة النفط الصخري سيأخذ مدى أوسع في المستقبل القريب، فقد ركزت الشركات العملاقة أهدافها في تطوير حقلي «بيرمين» الضخم في ولايتي تكساس ونيومكسيكو و«باكين» الضخم في ولاية «نورث داكوتا»، تم اكتشاف حقول ضخمة في الحوضين، كما يتوقع المراقبون أن هذه الشركات ستستطيع، بفضل تخفيضها للنفقات والتقدم العلمي ونجاحها في تحقيق الاكتشافات الضخمة، تحقيق الأرباح حتى في حال انخفاض الأسعار إلى /35/ دولاراً للبرميل.
من المتوقع أن يبدأ الإنتاج الضخم من الحوضين «بيرمين» و «باكين» خلال النصف الأول من العقد المقبل /2020-2025/، والسبب الرئيس لتأخير الإنتاج الضخم هو انتظار الانتهاء من تشييد الأنابيب والخزانات وموانئ التصدير لاستيعاب الكميات الضخمة المتوقعة.
وبدأ العمل فعلاً في البنية التحتية، حيث تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن يرتفع إنتاج الولايات المتحدة إلى /13/ مليون برميل يومياً بنهاية 2020 مقارنة بحوالي/12.2/ مليون برميل يوميا في الوقت الحاضر، وتتوقع إدارة معلومات الطاقة أن يبلغ مستوى الإنتاج الأمريكي نحو /24/ مليون برميل يومياً بحلول 2025.
تحديات يفرضها إنتاج النفط الصخري
كما في أي صناعة جديدة هناك تحديات عدة، ففي صناعة النفط الصخري، هناك الإمدادات الإضافية المتوقعة من النفط الخفيف جداً لحقول النفط الصخري، ومن المتوقع أن يترك هذا الإنتاج المتزايد للنفط الخفيف جداً بصماته على الصناعة النفطية الدولية، للأسباب التالية:
أولا: زيادة ضخمة مستمرة للإمدادات النفطية الأمريكية من النوع الخفيف جداً، وعدم توافر الأنواع الأخرى من النفوط (الثقيل والمتوسط والخفيف)، ما سيعني أن المصافي العالمية، ومن ضمنها الأمريكية ستستمر في اللجوء إلى الاستيراد والاعتماد على إمدادات دول أخرى تستطيع أن توافر أنواعاً مختلفة من النفط.
ثانياً: هل ستنافس الشركات بدعم أو بغير دعم من الحكومة الأمريكية، أقطار «أوبك» وحلفاءها (من ضمنهم روسيا) في الهيمنة على الأسواق، بعد قرارات «أوبك» التاريخية في أوائل عقد السبعينيات في نقل قرار الإنتاج إلى الدول المنتجة بدلاً من الشركات. لكن هنا سيطرح سؤال جديد: فمع حيازة الشركات هذه الطاقة الضخمة في الولايات المتحدة نفسها، أي خارج حلقة الدول المنتجة الأخرى (أوبك وحلفاؤها)، ومع سياسة أمريكية علنية لاستعمال سلاح النفط (الحصار والمقاطعة) لدعم سياستها الخارجية ضد «الدول المارقة»، بل حتى محاولتها للضغط على أوروبا بتقليص استيرادها للغاز الروسي بحجة الأمن الطاقوي لأوروبا، بينما السبب الرئيس هو زعزعة الاقتصاد الروسي.
فهل سيتطور هذا التعاون بين الشركات والحكومة الأمريكية إلى استعمال سلاح النفط الأمريكي للضغط على الأسواق كما هو يستعمل للضغط على الدول «المارقة»؟ أم إن هذه سياسة مؤقتة ومحصورة بإدارة الرئيس ترامب؟ وهل ستلعب هذه السياسة دور المنتج المرجح في الأسواق العالمية للتأثير في الأسواق والأسعار، وهل يمكن اعتماد هذه السياسة وما يتبع عليها من مسؤوليات وتكاليف، وبالذات فيما يتعلق بالشركات نفسها، التي من أولوياتها توزيع أكبر عائد ممكن للمساهمين؟ وهل من المصلحة الأمريكية تخفيض الأسعار وهي بصدد بروزها كدولة مصدرة؟.
من المعروف أن الولايات المتحدة كانت تتطلع منذ منتصف السبعينيات إلى تغيير ميزان الطاقة الأمريكي من أكبر مستورد للطاقة عالمياً، لتتحول إلى دولة مكتفية ذاتياً، وفك اعتمادها على الدول المصدرة (العربية منها بالذات)، وقد حققت واشنطن هذا الأمر حالياً مع اكتشاف البترول الصخري، طبعاً إذا تبنت الإدارات ولشركات الأمريكية هذه السياسات سيعني هذا عودة النظام النفطي العالمي إلى وضع جديد يختلف عما هو عليه منذ أوائل السبعينيات، وحيث ستتمكن الشركات من أن تلعب دوراً شبيهاً بدورها ما قبل 1970-1973، عندما قررت «أوبك» أخذ زمام المبادرة في تقرير سياسات الإنتاج ولعب الدور المرجح في الأسواق لاستقرار الأسعار.
العالم الاقتصادي- قسم الدراسات
Discussion about this post