لا شك أن مشاهد العنف والتخريب التي رافقت احتجاجات أصحاب «السترات الصفراء» في باريس، والعديد من المدن الفرنسية الأخرى في 17 تشرين الثاني 2018، تمثل إحدى النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها القرارات غير المدروسة جيداً، أو التي تصدر من أعلى دون حساب لتداعياتها وآثارها، وذلك نتيجة قرارات الحكومة والرئيس ماكرون برفع أسعار المحروقات وخصوصاً الديزل، وهو الأكثر استعمالاً في السيارات الفرنسية مع بداية عام 2019 بغرض خلق بيئة أقل تلوثاً وفقاً للخطاب الرسمي.. فما الأسباب التي تقف وراء هذه الاحتجاجات؟ وهل نجح ماكرون في احتواء «السترات الصفراء»؟..
يتوزع أصحاب «السترات الصفراء» بين فئات عديدة تضم حرفيين ومزارعين وموظفين، وينتمي جزء كبير منهم للطبقة الشعبية، كما يضمون العديد من الكوادر التي تنتمي للطبقة الوسطى، وينحدرون من مختلف مناطق وأقاليم فرنسا، ويعانون تدهوراً في الخدمات الحكومية في النقل والصحة والتعليم، والأهم من ذلك أنهم يشعرون بأنهم أصبحوا منسيين وغائبين عن القرارات التي تتخذها البيروقراطية في باريس، والتكنوقراط الذين يقبعون خلف مكاتبهم الأنيقة في أرقى الأحياء الفرنسية.
إلا أن معاناة المحتجين تراكمت خلال الشهور الثمانية عشر المنقضية من حكم ماكرون قبل تفجر الاحتجاجات، ذلك أن السياسة المالية والضرائبية والاجتماعية -التي تنفذها الحكومة الفرنسية تحت إشرافه وتوجيهه بهدف زيادة قدرة فرنسا التنافسية في الاقتصاد العالمي- عملت في المقام الأول على تحويل وتغيير وظيفة الدولة الفرنسية التي حظيت بمسمى «دولة الرفاهية» أو دولة الرعاية الاجتماعية (حيث كانت الدولة تتحمل العبء الأكبر من تكلفة الخدمات الصحية والتعليمية والنقل والمواصلات والرعاية الاجتماعية ونظم التقاعد وتنظيم علاقات العمل برأس المال) إلى دولة ليبرالية متعولمة بسياسات جديدة تهدف إلى زيادة الضرائب غير المباشرة، وتخفيض الضرائب على الشركات ومحاباة رجال الأعمال، لحفزهم على الاستثمار وتوفير فرص العمل، وكذلك إلغاء الضريبة على الثروات أي على الأغنياء الذين يمثلون نسبة قليلة من السكان لتحقيق الهدف ذاته، أي تحفيز قدرتهم على الاستثمار، وبالنتيجة التواؤم مع متطلبات العولمة والاتحاد الأوروبي وبيروقراطية «بروكس»، وتحويل الدولة المسؤولة عن الرفاهية والرعاية إلى دولة تقتصر وظيفتها على حفظ الأمن، وتصبح محايدة بين الأغنياء والفقراء، وتترك المواطن الفرد في حقل المنافسة لكي يكسب قوته وعيشه وفق مبدأ حصول الناجح على كل شيء.
ينطلق المحتجون ومؤيدوهم الذين ارتفعت نسبتهم مع تصاعد واستمرار الاحتجاجات من خبرتهم التي عايشوها أباً عن جد مع نموذج الاشتراكية الديمقراطية الاجتماعية أو حتى الليبرالية الاجتماعية التي وفرت لهم العديد من الامتيازات والضمانات في العمل والتقاعد، والتعليم، والعلاج، والدعم الأسري لمواجهة النموذج الجديد للدولة وإسقاطه، حيث يستهدف هذا النموذج حرمانهم من المكاسب التي حصلوا عليها عبر نضالهم خلال العقود المنصرمة التي مثلت سياسات ماكرون للتعبير الأوضح والأقسى حتى اللحظة لهذا النموذج، أسهمت تلك السياسات في تدهور مستوى معيشتهم وتدني الخدمات المقدمة لهم وزعزعة أمنهم ومستقبلهم.
لماذا اتسمت التظاهرات بالعنف؟
لم تخل هذه الاحتجاجات من العنف ومشاهده في تلك المواجهة بين المحتجين وقوات الأمن وثمة العديد من المداخل لتفسير العنف الذي رافق هذه الاحتجاجات أولها أن هؤلاء المتظاهرين والمحتجين لا ينتمون إلى أي تنظيم أو حزب سياسي، أو نقابي، وكان افتقادهم هذه الأطر السياسية والنقابية يعني افتقادهم كيفية تأمين احتجاجاتهم من إمكانية تغلغل المتطرفين من مختلف تيارات أقصى اليمين وأقصى اليسار فيها، ففي المظاهرات التي تشرف عليها الأحزاب أو النقابات ثمة تقاليد تنظيمية تؤمن سير التظاهرات عبر تشكيل مجموعات أمنية من المتظاهرين لكي تحول دون تسلل العناصر المتطرفة، بل تحول دون انزلاق التظاهرات لساحة العنف.
أما المدخل الثاني لتفسير العنف الذي رافق هذه الاحتجاجات، فيتمثل في افتقاد معظم المتظاهرين الخبرة والتجربة، بل إن معظمهم لم يتصور أن حفظ النظام العام يتطلب استخدام الغاز المسيل للدموع، وخراطيم دفع المياه.
أما ثالث المداخل، فإن المتظاهرين والمحتجين أصحاب السترات الصفراء قد فقدوا الأمل ولم يعد لديهم ما يفقدونه، وهو أمر يسهم في تأجيج العنف خاصة عندما لا تتوافر استجابة سريعة لمطالبهم تعيد لهم الأمل وتعيد لهم الوزن والتقدير، ونتيجة لذلك فإن «السترات الصفراء» طالبوا بكل شيء والآن وليس غداً لأنهم يفتقدون خبرة التفاوض والتدرج في تصعيد مطالبهم والتمرس في صياغة الحلول الوسط.
يضاف إلى ذلك وجود بعض الجماعات المتطرفة التي تستهدف رفع التوتر مثل جماعات من اليمين المتطرف التي خسر معسكرها أمام ماكرون، وبعض الجماعات الأخرى التي ترى في العنف مرادفاً للهوية خاصة عندما يتعلق الأمر برموز الدولة والأغنياء والبنوك وقوس النصر والمحال الفخمة والمقار الرسمية.
لماذا لم تنجح مراهنات الحكومة؟
ما لاشك فيه أن أداء الحكومة الفرنسية وماكرون والتناقضات والاختلافات بينهما قد فاقما من الأزمة ومضاعفاتها، حيث عولت الحكومة على تقلص موجة الاحتجاجات واستنفاد طاقة المحتجين من خلال التباطؤ في الاستجابة لمطالبهم ورفضت الحكومة في البداية هذه المطالب، وأصرت على عدم التراجع والاستمرار في فرض القرارات الضريبية وغيرها في البداية، وعندما اتسعت موجة الاحتجاجات واكتسبت تأييد نسبة كبيرة من المواطنين والفئات الأخرى تراوحت بين 73% و80% تراجعت الحكومة وأعلنت تعليق هذه القرارات لمدة ستة أشهر، وخاصة مع انزلاق الاحتجاجات إلى العنف، وهي الاستجابة التي رآها المتظاهرون غير كافية ولا تتلاءم مع مطالبهم، بل وقررت الحكومة عدم فرض ضرائب خلال عام المقبل.
من ناحية أخرى فإن خلافاً تحدث عنه بعض الكتاب الفرنسيين بين ماكرون ورئيس الحكومة، فالأول اعتزم التراجع عن القرارات، بينما أصر الأخير عليها، على صعيد آخر فإن رئيس الحكومة قد تحدث عن إعادة النظر في قرار إلغاء الضريبة على الثروات والتحقق ما إذا كان هذا القرار يشجع الأغنياء على الاستثمار من عدمه، في حين رفض ماكرون بشدة إلغاء هذا القرار.
عموماً توزعت مواقف ماكرون والحكومة بين نمطين من الاستجابات، أولهما أن تحقيق مطالب المتظاهرين يعني كسر هيبة الدولة، وفتح الباب أمام المطالب المضمرة لدى العديد من الفئات، أما ثانيهما فهو ضرورة الاستجابة لمطلب المتظاهرين، وإن تصلّب الموقف الرسمي في مواجهتها يكفل لها الاستمرار والتعاطف من الرأي عام، وتأرجحت مواقف الحكومة الرسمية بين هذا وذاك واستخدمت كليهما في أوقات مختلفة، وفي جميع الأحوال جاءت الاستجابات متأخرة نتيجة التردد ولم تؤت ثمارها المتوقعة.
10% يسهمون في انبعاث الكربون!!
لقد حملت احتجاجات «السترات الصفراء» طوال هذه الأسابيع الخمسة والعشرين العديد من الدلالات والمعاني، يتمثل المعنى الأول منها في أن الفجوة باتت عميقة بين النخبة الحاكمة والقاعدة العريضة من الطبقات الشعبية والمتوسطة، وكذلك بين السياسات والقرارات التي اتخذت خلال هذه السنوات الأخيرة، واعترف ماكرون خلال مداخلة تلفزيونية أثناء هذه الاحتجاجات بأنه لم ينجح في إجراء التصالح بين القمة والقاعدة.
أما ثاني هذه المعاني فيتمثل في أن ماكرون رغم الصلاحيات الكبيرة التي يحظى بها في النظام الرئاسي الفرنسي لم يستوعب جيداً التفويض الذي حظي به في هذه الانتخابات، حيث إن جزءاً كبيراً من هذا التفويض قد منح له، لأن الفرنسيين لم يريدوا أن يكون ممثل اليمين المتطرف والعنصري هو المسؤول عن إدارة السياسات الخارجية والداخلية، وإن تجاوز الرئيس لأطر اليمين واليسار كان حصاد ظروف استثنائية، ولم يكن تفويضاً لتقويض مكتسباتهم الاجتماعية والاقتصادية، أو الشروع في تغيير وظيفة الدولة الفرنسية من الدولة الضامنة للحرة والإخاء، والمساواة ورفاهية المواطنين إلى مجرد دولة حامية للأمن والاستقرار.
من ناحيـة أخرى فإن المؤشرات الإحصائية الفرنسية تذهب إلى أن الـ10% الأكثر غنى في فرنسا يسهمون في انبعاث الكربون من خلال سيـاراتهم بنسبــة تبلغ أربعة أضعاف ماينبعث من كــــربون جراء أنشطة الـ 50% من الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
كما أن الحكومة لم تقدم لهذه الطبقات بدائل فيما يتعلق بسبل الانتقال والمواصلات لمقار عملهم وحقولهم، تتوافق مع سياسات الانتقال البيئي وتخفض أعباءه وكشف هذا التقاعس عن توفير بدائل أقل تكلفة للفئات الأكثر معاناة من الطبقتين المتوسطة والفقيرة بجلاء عن انحياز الرئيس وحكومته للأغنياء من رجال المال والأعمال وأصحاب الشركات، وفي ظل هذا الانحياز لم تقرر الحكومة زيادة أسعار الوقود للبواخر التي تنقل السلع والبضائع والمنتجات، وكذلك لم تفعل بخصوص وقود الطائرات، وفي الوقت الذي تفرض فيه الضرائب على مختلف العمليات فإنها تستثني عمليات السوق المالية والبورصة من فرض مثل هذه الضرائب.
طبقت بعض عناصر هذه السياسة خلال العقود الأخيرة بهدف تسهيل عمل الشركات وأصحاب الأعمال ومنحهم إعفاءات متتالية لحفز الاستثمار وتوسيع مجاله، بحيث ينعكس ذلك سلباً على العمال والعمل، وقد تبين أن ذلك لم يكن إلا وهماً، وبدلاً من ذلك اتضح للشعب والمواطنين حقيقة تكوين طبقة اجتماعية من الأغنياء أو الأغنياء جداً التي فضلاً عن لكونها تحظى بإعفاءات ضريبية مختلفة فإنها تجد دائماً طريقها للتهرب من الضرائب التي يقررها القانون.
أزمة تتجاوز أي إجراءات مؤقتة
تتشابه الأوضاع في العديد من البلدان الأوروبية مع الوضع في فرنسا خاصة في هولندا وبلجيكا، حيث خرجت تظاهرات أصغر حجماً وأقل عنفاً من أصحاب السترات الصفراء في هذين البلدين أيضاً، فهم جميعاً يخضعون لنظام الضرائب والسياسات المالية المعولمة، والنيوليبرالية المفروضة من هيئات الاتحاد الأوروبي ومفوضية «بروكسل» البيروقراطية ويعانون آثارها.
وما يجري ليس إلا تعبيراً مباشراً عن إخفاق هذه السياسات وعجزها عن إيجاد حلول مناسبة للنظم الرأسمالية الغربية التي تمر بمشكلات متنوعة الأوجه أبرزها أزمة المديونية وأزمة البنيوية، حيث أصبح القطاع المالي يسيطر على نحو 90% من حركة الاقتصاد العالمي، على حين أن القطاع المنتج لا يحظى إلا بنحو 10% فقط في هذه الحركة.
Discussion about this post