العالم الاقتصادي- متابعات
كشف الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ديفيد بولوك أن الخلاف الاقتصادي الكبير المشتعل اليوم بين الولايات المتحدة والصين لا يعتبر حرباً بالمعنى الحقيقي، ولا حتى حرباً اقتصادية، وإنما يمثل بصورة جوهرية تصعيداً لسلسلة من التعريفات العقابية، أو الضرائب التي بدأت كل دولة في فرضها على الواردات القادمة من الأخرى موضحاً أن خطوة البداية كانت من نصيب الولايات المتحدة حين فرضت تعريفات جديدة وصلت إلى 25 %على واردات صينية شتى بقيمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات بعدها انتقمت الصين بالأسلوب نفسه واليوم يهدد الجانبان باتخاذ مزيد من الخطوات في هذه الدائرة المفرغة.
وأضاف بولوك في تصريح صحفي أن هذا النوع من المنافسة السلبية يلحق الضرر باقتصاد كلا الطرفين لأن الضرائب الجديدة تجعل الواردات أعلى سعراً وبالتالي يضطر المستهلكون لسداد أسعار أعلى وشراء سلع أقل ويترتب على ذلك تراجع في مجمل الحركة التجارية ويتراجع معها النمو الاقتصادي في كلا البلدين ولذلك يقول الكثير من الخبراء إن الحروب التجارية ليس فيها طرف فائز وإنما خاسرون فقط ـ وإن كان من الممكن أن يتكبد أحد الطرفين خسارة أفدح عن الآخر.
وتابع قائلاً: لماذا أقدم ترامب إذن على هذه الحرب التجارية مع الصين؟ في الجزء الأكبر منها يبدو ذلك محاولة لممارسة ضغوط على الصين لإصلاح بعض سياساتها الاقتصادية المهمة: التجسس الصناعي وسرقة الملكية الفكرية والنقل القسري للتكنولوجيا والإعانات الحكومية الضخمة لصناعات منتقاة وفرض قيود صارمة على الشركات الأجنبية في قطاعات جوهرية بعينها… وغيرها ويتفق الكثير من المراقبين الأميركيين، ومن بينهم حتى بعض أقسى منتقدي ترمب من الليبراليين، أمثال الكاتب الشهير في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان على أن الصين تغش في التزاماتها في هذه المجالات أمام منظمة التجارة الدولية التي انضمت إليها منذ نحو عشرين عاماً.
ويوضح الخبير بولوك أنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه التعريفات الجديدة ستكون فعالة في تحسين سجل الصين إلا أنه حتى ولو لم تكن فعالة تبقى هناك فرصة معقولة أن تتوقف الولايات المتحدة عن تصعيد هذه الدائرة لمستوى أكبر كي تتجنب وقوع أضرار اقتصادية متبادلة أكبر حيث ينصح بعض كبار صانعي السياسات الأميركيين الآن بالتحلي بحذر أكبر في هذا الشأن وأعرب عن اعتقاده أن الولايات المتحدة والصين ستتوصلان قريباً إلى سبل للتوصل لاتفاقات بدلاً من الاستمرار في التصعيد ومواجهة تكاليف أكبر وأطول أمداً.
وبيّن بولوك أن انكماش التجارة بين الصين والولايات المتحدة لن يضر اقتصاد البلدين فقط وإنما الاقتصاد العالمي ككل ولذلك تميل أسواق الأسهم حول العالم على سبيل المثال إلى التراجع لدى ورود أنباء عن مزيد من التوترات التجارية الأميركية ـ الصينية وترتفع عندما تهدأ التوترات.
وأضاف: ينقلنا هذا أخيراً لتأثير هذه التوترات التجارية على المنطقة العربية إذا استمرت «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين وتسببت بالتالي في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي أو حتى حالة ركود عالمي فإن هذا سيؤدي بصورة شبه مؤكدة إلى تقليص نمو معظم اقتصاديات المنطقة العربية هي الأخرى من أبرز الأسباب وراء ذلك أن أسعار النفط تميل في الغالب إلى الارتباط المباشر بالإمكانات الاقتصادية العالمية وعندما تنكمش هذه الإمكانات تميل أسعار النفط نحو الانخفاض هي الأخرى ـ ويعتمد الكثير من اقتصاديات المنطقة العربية على عائدات النفط وبالتالي ستتعرض لأضرار مضاعفة.
وقال: من المحتمل أن تتعرض المنطقة لبعض التداعيات الأخرى، حتى وإن كانت بصورة غير مباشرة وربما تبدأ الولايات المتحدة والصين في التطلع نحو مناطق أخرى بخلاف بعضهما البعض بحثاً عن أسواق جديدة ومداخلات اقتصادية وفرص استثمارية وإلى حد معين، من الممكن أن يؤدي ذلك لإعادة توجيه بعض النشاطات الاقتصادية الأجنبية نحو عدد من المواقع المختارة في المنطقة العربية.
وأضاف:إن ازدياد الاهتمام الصيني والأميركي بالفرص التجارية في المنطقة العربية ربما يقلص الأضرار الاقتصادية الأوسع الناجمة عن «الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية ومع ذلك تبقى هناك مجالات حيوية قليلة ربما سيتعين على دول المنطقة العربية خلالها الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، خاصة إذا استمرت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في التردي، من بين هذه المجالات القطاع الأمني وما يرتبط به من تجارة واستثمارات ـ سواء أسلحة أو تكنولوجيا سيبرية أو مواد خام حساسة ومن بين الأمثلة في هذا الجانب الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا الاتصال عن بعد من شركة «هواوي» الصينية، وبيع معدات عسكرية أميركية متقاعدة، وإذا تفاقم الصدع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين فإن اهتمام كل منهما ربما يتزايد بتقييد سوق صادرات مثل هذه السلع الحساسة وحرمان الأخرى منها. في هذه الحالة ستتعرض دول المنطقة العربية لضغوط أكبر من أي وقت مضى كي تتخذ قرارات صعبة تجاه هذه الخيارات الحيوية، التي تتميز بطابع جيوسياسي لا يقل أهمية عن الطابع الاقتصادي لها.
ويخلص بولوك إلى القول: من المحتمل أن تترك «الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية تأثيراً محدوداً أو غير مباشر على المنطقة العربية ويتعين على صانعي السياسات في الدول العربية البحث عن تسوية ما لهذه التوترات التجارية القائمة بين العملاقين الاقتصاديين البعيدين ومن شأن ذلك خدمة مصالح اقتصاديات المنطقة العربية، بجانب الاقتصادين الأميركي والصيني.
Discussion about this post