بقلم: د. وائل عفاش
لطالما شكّلت التجارة بين الدول محركاً أساسياً لطبيعة وملامح العلاقات فيما بينها منذ قرون طويلة، كما كانت المصالح التجارية أحد أهم محركات التاريخ سلماً وحرباً، ويبدو أن نظرية حرية التجارة التي اعتمدتها دول العالم كمكون أساسي من النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت على المحك الآن وقيد المراجعة، بعد بروز بعض مظاهر الحرب التجارية التي نشهدها الآن بين الولايات المتحدة والأقطاب الاقتصادي الدولية الأخرى، والحرب التجارية مصطلح يشير إلى قيام دولتين أو أكثر بفرض رسوم جمركية أو حواجز تجارية على بعضها البعض.
وقد بدأت هده الحرب التجارية تبدو مع قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على عدد من ورادات الصين لأمريكا، وزاد من حدة الأزمة تغريدات الرئيس الأمريكي على “تويتر” التي أعلن فيها أن الحرب التجارية شيء حسن لأنه يمكن للولايات المتحدة أن تكسبها بسهولة.
وقد بدأ الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية على ورادات الحديد والألمونيوم القادم لأمريكا من عدد من الدول من بينهم الصين، وجاءت كالتالي 25 % رسوم جمركية على واردات الحديد و10 % على واردات الألمونيوم، تلاها فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوم جمركية جديدة على واردات بضائع صينية تتخطى قيمتها الـ60 بليون دولار كوسيلة للحد من الاستثمار الصيني داخل أمريكا، وطريقة أيضاً للثأر من الصين لما قامت به حسب زعمها من اعتداء على حقوق ملكية فكرية أمريكية في مجال التكنولوجيا، ثم أنهاها ترامب بتهديد بفرض رسوم جمركية تصل قيمتها إلى 100 مليار دولار أمريكي على الصين.
رداً على هذه الإجراءات فرضت الصين رسوماً جمركية بنسبة 25 % على 128 سلعة من الواردات الأمريكية، حيث تؤثر تلك الرسوم على الواردات الأمريكية بقيمة نحو 3 مليارات دولار، وأوضحت بكين أن الخطوة تهدف إلى حماية المصالح الصينية وتعويض الخسارة الناتجة عن فرض رسوم جمركية أمريكية جديدة على الواردات الصينية.
وعلى امتداد الشهور الماضية شغلت سياسة الولايات المتحدة في فرض رسوم جمركية جديدة على واردات أمريكا السلعية من مجموعة الدول الصناعية التي تمثل شركاءها الأساسيين مثل الاتحاد الأوروبي والصين أسواق العالم، وتسببت في اضطراب واسع رغم توجه الولايات المتحدة الآن إلى التفاوض مع شركائها الأوروبيين.
وتمثل الحرب التجارية بين أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي تحدياً كبيراً للرئيس الأمريكي ترامب الذى وعد أنصاره بأن يصلح سياسات أمريكا التجارية لتحقيق مصالح العمال الأمريكيين الذين تتقلص فرص العمل أمامهم بسبب المنتجات الأرخص ثمناً القادمة من الصين والاتحاد الأوروبي.
وكان قرار الرئيس ترامب رفع التعريفة الجمركية على واردات الولايات المتحدة من الصلب والألمونيوم قد أحدث ضرراً بالغاً لعدد من الدول الأوروبية في مقدمتها ألمانيا، أهم الأطراف الأوروبية تصديراً للصلب إلى الولايات المتحدة، وليس الألمان فقط هم المتضررون من سياسات ترامب التجارية الجديدة، ولكن الفرنسيين الذين يخشون من أن يؤدي تطبيق التعريفة الجمركية الأمريكية الجديدة إلى إغلاق فرص عمل كبيرة في أوروبا بما يؤثر سلباً على الاتحاد الأوربي.
وكما يقول الأوروبيون فإن ترامب يلعب دوراً خطيراً لأن سياسته الحمائية لن تكون في مصلحة أوروبا التي سوف تفقد الآلاف من فرص العمل ما لم يظهر الاتحاد الأوروبي قوته، ويوحد جهوده في منظمة التجارة العالمية مع جهود الصين والبرازيل، ورغم أن البريطانيين هم الأكثر سيطرة على ردود أفعالهم تجاه القرارات الأمريكية لكن ثمة مخاوف كبيرة من أن يكون لسياسات ترامب تأثيرها على صناعة الصلب الإنجليزي.
وداخل الولايات المتحدة يرفض 54 % من الأمريكيين سياسات ترامب فى فرض تعريفة جمركية جديدة على واردات الصين والاتحاد الأوروبي، ويرون أنها لن تنجح ولن يكون لها أثر إيجابي على التجارة الأمريكية، لأن التعريفة الجمركية الجديدة سوف تضر المستهلك الأمريكي بسبب تأثيرها المؤكد على رفع الأسعار، كما أنها لن تؤدي إلى تغيير سياسات الصين.
ومن المتوقع أنه إذا استمرت استفزازات ترامب التجارية وخرجت عن السيطرة، فإن العشرات من اتفاقيات التجارة الحرة التي استغرقت عقوداً من التفاوض قد تنحى جانباً مرة أخرى، كما أن توقعات النمو الاقتصادي البطيء جعلت أسواق البورصة حول العالم تترنح.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نظريات التجارة الحرة وما يرتبط بها من معايير مثل إلغاء الرسوم الجمركية (مع بعض الاستثناءات) وحماية الملكية الفكرية وتجارة الخدمات وتنظيم المشتريات الحكومية، طالما تعرضت خلال العقود الماضية لانتقادات كبيرة، باعتبارها غير عادلة، وأنها كرست التفوق الاقتصادي الغربي على اقتصادات الدول النامية، وإضعاف أي فرص لنمو قطاعاتها الإنتاجية بسبب ضعف قدراتها التنافسية في السوق العالمي؛ حيث تعالت مطالب الكثير من مفكري التنمية وقادة بعض هذه الدول لضرورة توفير بعض سبل الحماية لبعض القطاعات الإنتاجية لحماية مصالحها الاقتصادية ومصالح مواطنيها العاملين فيها.
وكان وما يزال هذا المسار ممكناً بحدوده الدنيا في إطار ما أطلق عليه (الاستثناءات) التي يسمح للعديد من الدول الفقيرة لإعادة ترتيب أوضاعها الاقتصادية وتعزيز قدراتها الإنتاجية، وخاصة في قطاعي الصناعة والزراعة، ولكن وعلى أرض الواقع قليلة هي الدول التي استفادت من هذه الاستثناءات؛ حيث تراجعت قدراتها الإنتاجية أمام المنافسة غير العادلة للسلع المنتجة في الدول المتقدمة عليها، ما أدى إلى إضعاف قدراتها التصديرية أمام إغراق أسواقها بالسلع المستوردة.
الأمر الذي انعكس على تفاقم عجوزات موازين المدفوعات لديها، وبالتالي تزايد الحاجة الى الحصول على قروض خارجية لسد هذه العجوزات، وأصبح يتم التعامل مع نظرية حرية التجارة وما يرتبط بها من شروط باعتبارها واقعا لا يمكن تجاوزه، وباعتبارها (أيديولوجيا الاقتصاد المعاصر)، خاصة بعد أن أصبحت جزءاً من شروط صندوق النقد الدولي لتطبيق أي برامج إعادة هيكلة لاقتصادات الدول التي ليس لديها قدرات على سداد ديونها.
كذلك تعرضت نظرية التجارة الحرة للعديد من الانتقادات في جوانب تتعلق بحماية الملكيات الفكرية، التي كرست في جانب منها احتكارات الأدوية، ورفع أسعارها بشكل أثر سلباً على قدرة السكان والحكومات على تحمل تكاليف الاستشفاء، هذا إلى جانب الشروط الأخرى ذات العلاقة بمنع تقديم الدعم للقطاعات الاقتصادية الإنتاجية (الصناعة والزراعة)، والتي كبلت القدرات الإنتاجية للدول النامية وأضعفت اقتصاداتها، وفرضت سياسات اقتصادية تقشفية على الخدمات العامة المقدمة لمواطنيها، ودفعت حكوماتها للانسحاب من الحياة الاقتصادية.
لاشك أن المطالبة بإلغاء قواعد ومعايير حرية التجارة الحرة عندما تأتي من أحد أهم مراكز الاقتصاد العالمي، من الولايات المتحدة وليس من دول العالم النامي، دفاعاً عن مصالح بعض قطاعاتها الاقتصادية، ولمواجهة العجوزات المتتالية في ميزانها التجاري، لصالح القوى الاقتصادية الكبرى الأخرى مثل الصين وأوروبا وكندا وغيرها.
ويبدو أن هذه الحرب التجارية التي بدأت أخيراً بين المراكز الاقتصادية العالمية ستعيد ملف حرية التجارة وما يرتبط بها من معايير الى الواجهة مرة أخرى، وهي فرصة للوقوف على النتائج التي نتجت عن تطبيقها خلال العقود الماضية، وكرست هيمنة الاقتصادات الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات على الدول الصغيرة والنامية.
إضافة إلى أنه يثير التساؤلات حول مدى جدوى استمرارية العمل وفق أسس النظام التجاري العالمي الحالي كمكون أساسي من النظام الاقتصادي العالمي، ومدى فاعليته في تحقيق التنمية المستدامة والحد من التفاوت الاجتماعي، ليس فقط داخل الدولة الواحدة، وإنما بين الدول نفسها، إلى جانب قدرته على محاربة الفقر والأمن الغذائي وخلق فرص العمل بشكل كاف ولائق وعادل في مختلف أنحاء العالم.
Discussion about this post