بقلم: أ. د طارق عفاش
عرفت الحضارات القديمة أشكالاً مختلفة من الدولة، وتحديداً منذ توطن الإنسان وامتهانه الزراعة ومعرفته الاستقرار، حيث ظهرت عند السومريين حوالي 4000 سنة قبل الميلاد وعند الفراعنة حوالي 3300 سنة قبل الميلاد، كما إن أفضل السبل لإدارة المجتمع كانت موضع اهتمام المفكرين والفلاسفة في مختلف مراحل التطور الحضاري من افلاطون وأرسطو مروراً بالفارابي وابن خلدون وهوبز وروسو وانتهاء بمفكري القرن العشرين.
ومع النهضة الأوربية ونتيجة للصراع بين البرجوازية الأوربية الصاعدة والنظام الاقطاعي وانتصارها عليه، ترسخ مفهوم الدولة القومية الحديثة التي تتميز بوجود أجهزة إدارية وقانونية مركزية وحدود ثابتة وشعوب ذات ثقافات خاصة, وتهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية وتوزيع الدخل والثروة والتخصص وتوفير السلع والخدمات، كما إن النظام الدولي الحديث تمحور حول هذا المفهوم الحديث للدولة.
أما الدولة العربية الحديثة فقد نشأت في ظروف تاريخية خاصة؛ ففي بعض الحالات كانت الدولة موجودة أصلاً وجاء الاستعمار ليدجنها وفق مصالحه، كما هو الحال في مصر والشام والمغرب العربي، وفي حالات أخرى كانت مؤسسات الدولة مفروضة من جانب القوى الاستعمارية كبعض دول الخليج العربي، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي جرى الحفاظ على معظم الأجهزة الإدارية والقانونية التي كانت قائمة في الحقبة الاستعمارية، حيث أصبحت نواة بناء الدولة الوطنية وفي العقود التالية شهدت عمليات تطور مختلفة ومازالت عملية تأسيس الدولة مستمرة.
وإن كانت الإدارة مظهراً ضرورياً لكل حياة مجتمعية لإدارة المجتمع وتنظيم أموره، وإن كان الإصلاح هدفاً مشروعاً يسعى كل فرد إلى تحقيقه وتسعى كل مؤسسة أو مجتمع إلى الوصول إليه بغرض معالجة أوجه القصور القائمة، غير أن التنمية الإدارية كمفهوم أكاديمي ترجع إلى حركة الإصلاح الإداري بالولايات المتحدة الأمريكية أوائل القرن العشرين والتي دعت إلى تحقيق الكفاءة في الأداء الإداري، كما ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مفاهيم أخرى كالإصلاح والتطوير والتحديث، وهي تهدف جميعها إلى إحداث تغيير أو تطوير في الإدارة العامة وتطوير الجوانب السلوكية والقوانين والأنظمة والإجراءات والهياكل، وذلك لمعالجة المشكلات ومواكبة المتغيرات المختلفة، إلا أن أكثرها شمولية هو الإصلاح حيث يرتبط بكلية الجهاز الإداري والخطط التنموية الشاملة.
وتكشف تجارب الإصلاح الإداري في الدول كافة عدم وجود نموذج أو طريق واحد للإصلاح، إنما هناك طرق متداخلة، منها ما هو جزئي أو شامل ومنها ما هو فجائي أو تدريجي أو دائم، كما ظهرت مفاهيم جديدة للإصلاح كالإدارة بالأهداف، وهو طريق إصلاح استثنائي ينطلق من مبدأ الإنتاجية الأفضل والإصلاح عن طريق المبادأة والإبداع، وهو ينطلق من التوجه إلى المستقبل، ويهدف إلى زيادة مثالية الأداء من منطلق الإبداع والابتكار والتخطيط المسبق.
كما تختلف دواعي الإصلاح الإداري، منها ما هو مرتبط بالعامل الاقتصادي كبطء وتيرة النمو الاقتصادي، ومنها ما هو مرتبط بالعامل التكنولوجي حيث إن ثورة المعلومات والاتصالات أوجبت إدخال وسائل حديثة في مجال الإدارة العامة ومنها ما هو مرتبط بالعامل الاجتماعي، حيث يلاحظ تغير كبير في تطلعات المواطنين والموظفين العاملين في الإدارة العامة، ومنها ما هو مرتبط بالعامل المؤسساتي؛ فدخول الدولة في المحيط الدولي المفتوح وانتهاجها اللامركزية في التنظيم أدى إلى ضرورة تغيير الهياكل وطرق عمل الإدارة العامة، وهو يهدف عموماً إلى التغلب على المشكلات الاقتصادية والتنموية والتنظيمية التي تعاني منها الإدارة العامة، وإلك من خلال إعداد الكوادر الإدارية الكفوءة وتحسين أساليب التعامل مع المواطنين، وتعزيز الاستجابة لمطالبهم وتعزيز مفهوم اللامركزية الإدارية، والمشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام وتبسيط الإجراءات وتحسين مستوى الأداء في الجهاز الإداري، ورفع الإنتاجية وترشيد الإنفاق الحكومي والتركيز على اقتصاديات الإنتاج والمساءلة ومتابعة عملية تقييم الأداء.
عموماً.. يمثل الإصلاح الإداري المحور الرئيسي في استراتيجية التنمية الشاملة المستدامة للدول، وعليه تعد منهجية إعداده وتطبيقه أكبر رهان يواجه الدول سيما النامية منها، بل يمكن القول إنه لا مجال للحديث عن تنمية شاملة ومستدامة دون أن يسبقها عملية إصلاح إداري شامل، فالإدارة هي العنصر الرئيسي الفعال والمحرك الأساسي لعملية التنمية، ويعتبر عدم كفاءتها مشكلة أساسية في تعثر العمل التنموي، كما إن الإصلاح الإداري في الدول النامية لا يعني مجرد إجراء تغييرات وتصحيح في النظام الإداري؛ بل يعني في الوقت نفسه إحداث تغييرات إيجابية ومطلوبة في الأنظمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية تواكب التغييرات الإدارية وتعزز عملية التنمية.
وفي هذا السياق جاء خطاب السيد الرئيس الدكتور بشار الاسد أمام مجلس الوزراء بغرض إعداد الدولة السورية، لمواجهة استحقاقات إعادة الاعمار والمضي في عملية التنمية، حيث تخطينا الجانب الصعب من هذه الحرب الظالمة بفضل بطولات وتضحيات جيشنا وصمود شعبنا ودعم الدول الصديقة، وقد تضمن الخطاب توجهات عامة بشكل رسائل موجهة الى شعبنا، حيث أكد على حضور الدولة ومصداقيتها وزرع الثقة في نفوس المواطنين بالحاضر والمستقبل، كما تناول الإصلاح الإداري بتحليل علمي عميق باعتباره مشروعاً وطنياً يهدف إلى خلق إدارة حديثة كفوءة وفعالة، قادرة على قيادة عملية التنمية والاستجابة الى تطلعات المواطنين، وأن نجاح هذا المشروع يعد مسؤولية مشتركة لجميع السوريين.
Discussion about this post