العالم الاقتصادي- متابعات
لم تعد الحرب في الوقت الراهن مجرد حرب تقليدية واضحة المعالم والأدوات، وإنما باتت خليطاً من توظيف الأدوات المتاحة كافة، التقليدية وغير التقليدية، بحيث أضحى الملمح والهدف الجوهري هو “التفجير من الداخل” باعتباره الوسيلة الأمثل لهزيمة الخصوم، من دون تحمل تكلفة كبيرة، على نحو يؤكد نظرية صن تزو، الجنرال الصيني والخبير العسكري، في كتابه “فن الحرب” القائلة: “أن تخضع العدو من دون قتال هو ذروة المهارة”.
يطلق على الحرب بين الصين والولايات المتحدة اسم حرب الجيل الخامس، في إشارة إلى أحدث التقنيات في مجال الاتصالات التي تقود ثورتها بكين، وتخشى واشنطن أن تسحب منها بساط التفوق في هذا المجال، لكن، عمم الباحثون هذا المصطلح للدلالة على الحروب الراهنة، والتي تختلف ملامحها عن الحروب التقليدية المباشرة بين طرف وآخر مقابل.
تعكس حروب الجيل الخامس، وفق الباحث شادي عبد الوهاب منصور، رئيس التحرير التنفيذي لدورية اتجاهات الأحداث، تراجع القدرة على التمييز بين ثنائية الحرب والسلام، أو الحروب التقليدية وغير التقليدية، أو الحروب النظامية وغير النظامية، أو الدول والفواعل المسلحة من دون الدول، إذ باتت الدول توظف كل الأدوات والوسائل المتاحة لكسب الحروب ضد خصومها بأقل تكلفة ممكنة.
ويشير عبد الوهاب، في كتابه الصادر حديثاً عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بالتعاون مع دار العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة، بعنوان “حروب الجيل الخامس: أساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية”، إلى أن الدول أصبحت تتحاشى شن الحرب المباشرة، وتفضل استخدام كافة الوسائل الإكراهية دون إعلان الحرب، مثل الحروب الاقتصادية والسيبرانية والمعلوماتية والبيئية، وحروب الفضاء، علاوة على توظيف “الأسلحة ذاتية التشغيل”.
وأصبحت الدول تتحاشى شن الحرب المباشرة، وتفضل استخدام طرق بديلة، مثل الحروب الاقتصادية والسيبرانية والمعلوماتية والبيئية؛ وهو ما عبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوله: إنها “معركة من دون قواعد حيث يحارب الجميع بعضهم بعضاً”.
ويذكر حديث بوتين بالحرب الأخرى الدائرة بين روسيا والولايات المتحدة ودول أوروبية، على غرار بريطانيا التي توترت علاقتها بالكرملين إثر حادثة تسميم العميل السابق سيرجي سكريبال في إنكلترا، كما تتهم واشنطن وعواصم أوروبية موسكو بشن حرب إلكترونية كبرى، من بين صورها الحديث عن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية التي أفضت إلى فوز دونالد ترامب بالرئاسة.
ويتوقع شادي عبد الوهاب أن تتطور هذه الحروب بشكل أكبر مشيراً إلى أن الحروب السيبرانية، وحروب الذكاء الاصطناعي ستكون أقل تكلفة مادية وبشرية مقارنة بالحروب التقليدية، وأكثر فعالية وتأثيراً.
ويؤكد أن الدولة المستهدفة لا تدرك في بعض الأحيان أنها في حالة حرب، فإحدى السمات الأساسية لحروب الجيل الخامس هي تلاشي الحدود بين ما يُعد أرضاً للمعركة وما ليس أرضاً لها، وأضحت معامل الأبحاث والبورصات ووسائل الإعلام والمراكز الدينية والمؤسسات الاقتصادية والفضاء الإلكتروني وغيرها، بمنزلة ساحات للمعارك وإدارة الصراعات بين الدول.
خلص شادي عبد الوهاب إلى أن هناك عدداً من الاتجاهات المستقبلية التي يتوقع أن تشهدها الحروب، ومن أبرزها:
- استمرار تراجع الحروب التقليدية بين الدول: تتراجع احتمالية نشوب حروب مباشرة بين الدول، خاصة القوى الكبرى في النظام الدولي، أو القوى الإقليمية الرئيسية، نظراً لتكلفتها المادية المرتفعة، ووجود بدائل أخرى أقل تكلفة مثل الاعتماد على الوكلاء المسلحين أو توظيف المجالات الجديدة من الحروب والتي أقل تكلفة، وأكثر صعوبة في تحديد هوية القائمين عليها، كما في الحروب السيبرانية، وحروب الذكاء الاصطناعي.
- تنامي قدرات الفواعل المسلحة من دون الدول: باتت الميليشيات المسلحة في العديد من مناطق الصراعات أشبه بجيوش، سواء من حيث بنيتها التنظيمية أم في كيفية وضع خططها، أو حتى على مستوى الأسلحة المستخدمة، مثل الصواريخ الباليستية والأسلحة ذاتية التشغيل.
- تصاعد الصراع بين الدول في بعض مجالات الحروب: تمثل الحروب السيبرانية والمعلوماتية والأسلحة ذاتية التشغيل، أبرز المجالات التي تشهد توظيفاً واسعاً في التفاعلات العدائية بين الدول، خاصة القوى الكبرى والإقليمية، وتعتبر الحروب السيبرانية تحديداً أكثر هذه الساحات اشتعالاً وأكثرها كارثية، خاصة مع نجاح الدول في اختراق البنية التحتية الحيوية للدول، مثل محطات الكهرباء والمحطات النووية فضلاً عن إمكانية قيام عدد محدود من الأفراد بشن هجمات سيبرانية تقارب في تعقيدها تلك التي تشنها الدولة.
- استهداف المجتمعات: يتوقع أن تستمر الجهود الرامية إلى محاولة اختراق المجتمعات، وإثارة الاحتقان الطائفي والإثني، وتساعد على ذلك المحاولات الدؤوبة لاختراق الدولة الوطنية تحت عناوين أيديولوجية ودينية وغيرها.
ونظراً لتصاعد التحديات تزداد التكلفة التي تتكبدها الدول لتأمين نفسها وحماية مواطنيها، خاصة مواجهة التحالفات المعادية وتعدد أطرافها وتوظيفها لأشكال متعددة من الحروب، فضلاً عن بروز مجالات جديدة من الحروب التي تتطلب من الدول جهوداً إضافية لمواجهتها، مثل الحروب السيبرانية وحروب الفضاء والأسلحة ذاتية التشغيل وغيرها.
Discussion about this post