تعاني البنوك التركية حالياً من أزمات خانقة، بسبب عدم قدرتها على استرداد القروض التي منحتها في فترات النمو الاقتصادي السريع، ويتزايد الحديث عن هذه القضية منذ عام من قبل أطراف كثيرة بينها مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية وبنوك الاستثمار الأجنبية، وتراجع التصنيف الائتماني للقطاع المصرفي ككل إلى مستوى بلدان أقل نمواً مثل فيتنام وبوليفيا، وانخفض مؤشر أسهم القطاع المصرفي في البورصة العام الماضي بنسبة 46% عند تقييمها بالدولار، وتراجعت قيمة أحد المصارف على سبيل المثال من /25/ مليار دولار قبل بضع سنوات إلى أقل من /7/ مليارات دولار حالياً.
وتبدو البيانات الرسمية التي تم إعلانها في غاية الخطورة، حيث تكشف السبب وراء ارتفاع معاناة البنوك التركية، والتي كانت تبدو كالنجوم وفق مقاييس المصارف في جميع أنحاء العالم في إحدى الفترات، وتشير إلى أن جميع المصارف الكبرى تعاني من نسبة مرتفعة من القروض المتعثرة مقارنة بالحجم الإجمالي للقروض، وتبلغ لدى بنك “دنيز” 25.2% ولدى مصرف غارانتي 22.1% ولدى مصارف “أق ويابي كردي” و”تي.إي.بي” أكثر من 20%، ويتضح حجم الأزمة عند مقارنة ذلك بالمستويات الرسمية المقبولة للقروض المتعثرة المدرجة في قائمة المتابعة، البالغة 4.5% للقروض بحسب لجنة تنظيم ومراقبة القطاع المصرف.
وفي مقارنة أخرى أكثر خطورة بلغت القروض المتعثرة مستويات تزيد على مصادر التمويل الذاتي للمصارف وهو ما يعني أنها في حفرة تزداد اتساعاً، فهي تصل إلى 226% لدى بنك “دنيز” و144% لدى “تي.إي.بي” وأكثر من 100% لدى معظم المصارف الأخرى، وفي نهاية العام 2018 بلغت القروض المتعثرة لدى أكبر /10/ مصارف نحو /64/ مليار دولار، وهو ما يعادل 16.6% من إجمالي القروض التي قدمتها، مقارنة بنحو 1.1% قبل اندلاع الأزمة المالية في آذار 2018
وعند تحليل نسبة القروض المتعثرة للبنوك نفسها إلى رؤوس أموالها الأساسية يتضح أن القطاع المصرفي التركي دخل أزمة مالية خانقة في نهاية العام 2018، لأن القروض المتعثرة وصلت إلى 106% من المصادر الذاتية لأس رأس المال الذي وضعه شركاء تلك البنوك، وقد كانت هذه النسبة 80% في مارس 2018، ويعني ذلك أنه في الوقت الذي تؤدي فيه الأزمة المالية إلى زيادة نسبة القروض المتعثرة فإنها أدت أيضاً إلى استنزاف رؤوس الأموال التي وضعها الشركاء وأنها بحاجة إلى رأسمال إضافي.
كل ذلك يؤكد حقيقة أن القطاع المصرفي التركي على منحدر مزيد من التدهور الحتمي، ومع ذلك تتوقع لجنة تنظيم ومراقبة القطاع المصرفي أن تصل “النسبة الإجمالية للقروض المعدومة في القطاع المصرفي إلى 6%”، في حين تتوقع وكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد أند بورز” أن تتراوح بين 15 و20%.
انتقادات شديدة لبنك “زراعت”
بعد إعلان توقعات الوكالة اتهمها المدير العام لبنك “زراعت” ورئيس اتحاد البنوك حسين آيدين بأنها “جاهلة ومُغرضة” وقد أثارت تصريحاته السخرية على نطاق واسع في وسائل الإعلام التركية، ورغم أن تفاقم حالة البنوك التركية ليست أمراً مفاجئاً، إلا أن البيانات المعلنة ورد فعل مدير بنك “زراعت” يؤكدان أنه من بين هذه البنوك العشرة الكبرى المقصودة، رغم أن بياناته غير معلنة، وعند تحليل تفاصيل ميزانية بنك زراعت الخاضع لإدارة حسين آيدين يتضح أنه البنك الوحيد الذي لا يعاني من أي نقص في المصادر الذاتية، وبالطبع هذا الوضع ليس ناتجاً عن ارتفاع رأسمال البنك.
السبب الرئيس هو انخفاض القروض المتعثرة المعلنة في الميزانية العمومية لبنك زراعت مقارنة مع بنك دنيز الذي يبلغ ثلث حجمه، وعند استثناء بنك “زراعت” فإن المصارف التسعة الأخرى، وبضمنها البنوك العامة مثل بنك خلق وبنك وقف، تعيش مشكلة ائتمانية كبيرة بسبب القروض المتعثرة، وتعاني من نقص في رأس المال، وعند استبعاد أرقام بنك “زراعت” فإن نسبة الديون المتعثرة إلى إجمالي قروض المصارف التسعة الأخرى تبلغ 18.2%، أما نسبة القروض المتعثرة إلى رؤوس أموال المصارف فإنها تبلغ 11.5%، وبالطبع قبل تهنئة إدارة البنك على هذا النجاح يفرض على المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال تحري السبب وراء عدم قدرة البنوك العامة الأخرى على تحقيق النجاح نفسه، ولماذا تعلن البنوك الخاصة عن أرقام كارثية.
هناك تساؤلات عن تفسير سبب ميزانية البنك الناجحة رغم إعلانه عن خسائر قياسية في السنوات الأخيرة، وسوف يقدم الإفصاح عن سر نجاح هذا البنك فائدة كبيرة للبنوك الأخرى ومستقبل القطاع المصرفي، ولعلنا نعثر فيها على صيغة فعالة لخروج تركيا من الأزمة، وربما تكون فيها إجابة شافية على مزاعم مؤسسات مثل “ستاندرد أند بورز” التي تؤكد أن البنوك في تركيا لا تتصرف بشفافية بشأن القروض المتعثرة.
العالم الاقتصادي- متابعات
Discussion about this post