بقلم: يونس أحمد الناصر
في طفولتي ومراحل دراستي الإعدادية والثانوية في ريف محافظة درعا كانت تسحرني قناطر بيتنا القديم البازلتية التي كنت أستلقي تحتها، وأتابع مهارة من قام بقطع هذه الأحجار القاسية ورصفها بهذا الشكل القوسي العجيب، كي تحمل فوقها أطنان التربة التي تغطي أسطح البيوت الحجرية، والتي يضاف إليها كل عام طبقة جدية لمنع تسرب المياه لداخل هذه البيوت الجميلة، وكم تساءلت عن كيفية قص هذه الأحجار وطريقة عقد القناطر التي يعلوها ما يسمى مفتاح القنطرة، وهي الحجر التي تجمع طرفي القنطرة لتشكل القوس الذي نراه فوق رؤوسنا.
حجر البازلت
في المرحلة الابتدائية نظمت مدرستنا رحلة إلى مدينة بصرى الشام الأثرية المعروفة، فتضاعف لدي شعور الدهشة لضخامة مسرح بصرى الأثري والقلعة البازلتية التي كانت أكبر من بيتنا بكثير، كما أن بناءها كان أكثر دقة وعناية من أحجار بيتنا التي كانت مرتبة فوق بعضها بدون أية مواد لتشد هذه الأحجار المقصوصة أيضاً بطريقة بدائية وغير مشذبة، ولكنها بقيت صامدة بطريقة عجيبة وفراغاتها كانت مكاناً لأعشاش الطيور أو لتنمو على الغبار المتراكم عليها الطحالب بعد المطر.
تجولنا في بصرى بين القلعة والسوق الأثري وسرير بنت الملك ودير الراهب بحيرا والبحيرة الرومانية وكبُر مع زيارتي لمدينة بصرى الشام اهتمامي بهذا الحجر البازلتي الذي يتحدى الزمن و تطورت أسئلتي لتصبح كما يلي:
لقد تمكن الإنسان السوري القديم والمهندس السوري أبولودور الدمشقي من تطويع هذا الحجر القاسي لنراه في القرن العشرين كما تركه لنا قبل قرون, فهل نحن عاجزين اليوم عن أن نكون مثل أبولودور الذي لم يكن يمتلك ما نمتلكه اليوم من العدد والأدوات؟
سؤال سيبقى برسم الأيام القادمة من القرن الواحد والعشرين وهمم الرجال في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب الظالمة التي تعرضت لها سورية.
استخدامات البازلت
الأسئلة المتراكمة بداخلي قادتني للبحث عن الاستخدامات الحديثة لحجر البازلت والاستفادة البشرية من هذا الحجر (الكنز كما أظن) وهذا ما وجدت:
تعتبر الصخور البازلتية من أقدم الصخور التي عرفها الإنسان وأكثرها انتشاراً، حيث شرع في الاستفادة منها منذ العصر البرونزي أي من حوالي أربعة آلاف سنة، وقد استخدمها في بناء الأبنية القديمة والأوابد التاريخية وأساسات المباني الكبيرة مثل الجسور والقلاع والحصون والكنائس والمعابد والمسارح ونحت التماثيل وغيرها.
والبازلت صخر شائع ومعروف في العالم كله و متواجد بكثرة في سورية في مناطق الاندفاعات البركانية في المنطقة الجنوبية من سورية والوسطى وتشكل الصخور البازلتية ثلث القشرة الأرضية كما يقول الخبراء.
تطورت استخدامات البازلت حتى شملت مختلف المجالات الصناعية والعمرانية وقد تم إخضاع هذه الصخور في عصرنا الصناعي الحالي لكثير من الاختبارات والتجارب، من أجل تطويعها واستغلال مزاياها المتعددة وتحسين خواصها بجعلها تكتسب بنية بلورية متجانسة تحافظ على مواصفاتها الطبيعية كالصلابة والقساوة ومقاومة العوامل الجوية والاهتراء، وكذلك مقاومتها الأوساط الحامضية والقلوية والكبريتية طيلة قرون عديدة مما جعلها مادة طبيعية هامة تدخل في العديد من التطبيقات الصناعية والإنشائية الحديثة والمتطورة.
كما تتمتع الصخور البازلتية بمواصفات جمالية عالية وخاصة بعد صقلها وتلميعها، وتتمتع أيضاً بمقاومة شديدة للكسر والسحق الميكانيكي وعازلية جيدة للحرارة وقدرة كبيرة لامتصاص الصوت والضجيج وقساوة وصلابة عالية تقترب من قساوة الألماس في سلم قساوة الصخور.
وتتنوع الاستخدامات التقليدية للصخور البازلتية كما في إكساء واجهات المباني الخارجية والأرضيات والسلالم وأعمال الديكور والزخرفة المختلفة وصخور مطحونة وحصويات للخرسانة وفرش الطرق والسكك الحديدية والجسور والسدود وأحجار البناء والجدران الحاملة، وتستخدم أيضا كمواد ركامية لصناعة الخرسانة والدروع الإسمنتية المستخدمة في المفاعلات النووية وبلاط لرصف الشوارع والأرصفة وأطراف الطرقات ومواد مالئة للطرق الإسفلتية وخلائط إسمنتية.
ومن الاستخدامات الحديثة للبازلت إنتاج معدات صناعية مقاومة للحموض والقلويات وصناعة أنابيب بازلتية بلاستيكية /مرنة/ وصناعة عوازل التوتر العالي والحرارة العالية وعوازل الصوت والضجيج، وصناعة الملابس والمواد المقاومة للنار والحرائق ومعالجة مخلفات الصناعات المختلفة، وإزالة أضرارها البيئية ووقاية المنشآت الصناعية والكيماوية من الاهتراء والتلف الناجمين من عوامل الأكسدة والاحتكاك وصناعة الخيوط والألياف البازلتية ذات الاستخدامات الصناعية الواسعة و إنتاج ألياف نسيجية ذات جودة عالية، وإنتاج قضبان بديلة مقوية في أعمال الخرسانة والبناء بالإضافة لصناعة اللباد البازلتي والصوف الصخري وفي الصناعات الحربية والفضائية.
كما يستخدم البازلت في تقوية المواد المركبة مثل البوليستر والصمغيات والبلاستيك المستخدمة في صناعة هياكل السيارات وأسطح القوارب وإن تبطين المنشآت الصناعية بالبازلت المنصهر أقل جلبة وأكثر فعالية للطاقة وأكثر استمرارية وأرحم للبيئة.
انتشار محدود
تغطي الصخور البازلتية مساحات شاسعة من الأراضي السورية حيث شهدت المنطقة نشاطاً بركانياً استمر لفترات طويلة وظهر في أزمنة جيولوجية مختلفة، وقد تركزت الفعاليات البركانية في المناطق الجنوبية والوسطى والمنطقة الساحلية ونهوض حلب وشمال شرق سورية, حيث تميزت الصخور البازلتية في هذه المناطق بألوانها السوداء والرمادية.
إن السبب الرئيسي لعدم الانتشار الواسع لصناعة البازلت في العالم يكمن في حقيقة عدم كون البازلت مادة للاستهلاك الواسع، شأن الإسمنت والفولاذ والحديد، والسبب الثاني يكمن في العمر المديد لمنتجات البازلت المصهور التي تخدم حقباً طويلة من الزمن دون أن تتعرض للتلف والاهتراء ودون الحاجة لاستبدالها، حيث أن المنشأة المدرعة بمصهور البازلت يمكن أن تخدم العمر المقدر لها بأكمله.
في الوقت الحاضر ومع تقدم العلوم التكنولوجيا فقد بدأت صناعة الصخور البازلتية تدخل في العديد من التطبيقات الصناعية والإنشائية الحديثة بسبب قلة تكاليفها واستخداماتها الواسعة وجدواها الاقتصادية وعدم تلويثها للبيئة.
اهتمام عالمي
إن تزايد الاهتمام العالمي بالمنتجات البازلتية الطبيعية أدى إلى تعدد وتنوع هذه المنتجات وزيادة استخداماتها وخاصة في البلدان الصناعية، حيث تتصف المنتجات البازلتية بخصائص كيميائية وفيزيائية جيدة كالعازلية الحرارية والمقاومة العالية للاحتكاك والتآكل والأوساط القلوية والرطوبة، لذلك فهي تتمتع بجودة عالية واقتصادية بنفس الوقت إذا ما قورنت ببدائلها من المواد الأخرى، كما أنها منتجات طبيعية غير ضارة بالبيئة وصحة الإنسان وغير ملوثة للطبيعة، إن هذه الخصائص الطبيعية للبازلت ستجعله في المستقبل القريب من الخامات الأساسية لإنتاج المواد الطبيعية المقاومة والنظيفة.
الخيوط والألياف البازلتية
من أهم الابتكارات الجديدة لاستخدامات البازلت الصناعية هي إنتاج خيوط وألياف البازلت المستمرة, حيث يتم تحويل البازلت المكسر بعد صهره في أفران خاصة بدرجات حرارة /1400– 1600/ درجة مئوية وتمرير المصهور البازلتي عبر وحدات سحب وشبكات مثقبة ذات فتحات وأبعاد محددة إلى ألياف وخيوط ناعمة جداً، تنقل إلى ماكينات لف وغزل الخيوط التي تحولها إلى بكرات من الخيوط والألياف البازلتية التي تتمتع بمواصفات نوعية عالية جداً واقتصادية مقارنة مع الألياف الأخرى السائدة والمستخدمة في الوقت الحاضر (ألياف الزجاج والكربون وغيرها)، إضافة إلى كونها غير ضارة بالبيئة وصحة الإنسان كما ذكرنا سابقاً.
وتعتبر الخيوط والألياف البازلتية المادة الأساسية لتصنيع كثير من المواد والمنتجات المتنوعة أهمها:
- ألياف مجدولة: تستخدم في صناعة النسيج والمواد البولميرية والبلاستيك المقاوم.
- خيوط مفتولة: تستخدم في صناعة المواد المنسوجة وغير المنسوجة كما تستخدم كمواد مالئة للمركبات البولميرية ذات الامتصاص الضعيف للماء والعزل الكهربائي.
- قضبان بازلتية مركبة: لتحل محل الحديد والفولاذ والفيبرغلاس كعناصر تقوية في صناعة الخرسانة والأبنية وغيرها.
- الأنابيب البازلتية والبلاستيكية المقاومة للتآكل– أنابيب إكساء وضخ و نقل النفط وحفر الآبار و شبكات الصرف الصحي وغيرها.
- أقمشة وملابس: تستخدم في صناعة وتقوية الملابس الواقية للجسم العازلة والمقاومة للحرارة والنار وفي البضائع للحماية الخاصة مثل الستائر والسجاد وغيرها وأقمشة خيش وحصر وشبكات عزل وتدعيم للمنشآت الصناعية والأبنية.
- فلاتر عالية النوعية لتنقية الغازات والغبار والدخان وكافة مخلفات المنشآت الصناعية والأبنية.
- صناعة الألواح القرصية السداسية من الأقمشة البازلتية /تشبه قرص العسل/ التي تستخدم ي المجالات التالية:
– صناعة السيارات والسفن ووسائل النقل المختلفة /تقوية المواد المركبة مثل البوليستر والصمغيات والبلاستيك المستخدمة في صناعة هياكل السيارات وأسطح السفن و كواتم الصوت لاشطمانات السيارات/.
– أجسام الشاحنات والباصات وسيارات التبريد.
– في الأبنية الزراعية والصناعية الحديثة كعوازل حرارية وصوتية.
– حصائر لتدعيم الطرق الاسفلتية ومهابط الطائرات.
– شفرات طاقة الرياح و جامعات الأشعة الشمسية.
– شبكات عزل وتدعيم الأبنية والمنشآت الصناعية.
– تركيبة مقاومة للاحتراق والنار في المحطات الكهربائية والنووية والمنشآت النفطية ومختلف المنشآت الحيوية /مهابط الطائرات ومدرجات المطارات– الجسور – الأنفاق– السدود…./
– في أجهزة الرادار الخاصة.
– في صناعة المفروشات والبلوتر وطاولات التنس وغيرها.
بقي أن نقول بأن سورية تمتلك كنزاً حقيقياً من البازلت لو استثمرناه في مرحلة إعادة الإعمار وأجدنا استخداماته العلمية وليس التقليدية لحققنا قفزات نوعية في عدة قطاعات منها التشييد والبناء والصناعات النسيجية والزراعية عبر صناعات متكاملة من استصلاح الأراضي الصخرية وزراعتها وصولاً لاستخدام الصخور التي تشكل اليوم عبئاً على الفلاحين لانتشارها في أراضيهم ما يعيق المكننة الزراعية، وأرجو أن أرى قريباً هذه الصناعة في بلدي.
Discussion about this post