يقاس دور الدولة المعاصرة بمدى قدرتها على الوفاء بحاجات المجتمع وتأمين حاجات ورغبات أفراده الآنية والمستقبلية, وتأسيساً على ذلك امتدت نشاطاتها لتشمل تنظيم وممارسة مختلف الوظائف الاجتماعية والاقتصادية مما عظم من أهمية تواصل الجهود لتحسين مستويات أدائها وزيادة كفاءتها, يستدعي هذا الأمر وضع أسس وأطر لما يسمى الإصلاح الإداري تارةً والتطوير الإداري تارةً أخرى, وغيرها من المسميات التي تعكس المحاولات لرفع مستويات الأداء المتدنية في غالبية الأجهزة الحكومية إلى مستوى الطموحات.
ولما كان التطوير الإداري يتم في ظل تكامل الترتيبات الإدارية الضرورية لأداء العمل الإداري سواءً على مستوى القطاعات أو على مستوى الموارد البشرية والفنية؛ فهو يقوم على تفعيل الواقع الإداري القائم ودعم مواطن القوة فيه والانتقال به إلى حالة أداء وإنتاجية أفضل في ضوء المستجدات والتغيرات الإدارية الحديثة والمتلاحقة, وهو بذلك يتناول بالمعالجة الفنية جوانب التخلف الإداري الذي يعود إلى أزمة فنية في التنظيم مما يؤثر على قدرته على الاستجابة لاحتياجات المجتمع.
أما الإصلاح الإداري فهو يرفد التطوير الإداري في مهمة الارتقاء بمستوى الطاقة التنظيمية نحو تحقيق الكفاءة في الأداء والكفاية الإنتاجية، عبر سلسلة من التحسينات في الإدارات العامة تقوم على إعادة تنظيم الهياكل الإدارية الحكومية وإحداث تغييرات في طرق وأساليب العمل على المستويات الإدارية, بما يؤدي إلى رفع كفاءة تنفيذ السياسة العامة وتحقيق الأهداف.
والحاجة إلى الإصلاح الإداري لا تنتهي أبداً, وإنما هي عملية ديناميكية مستمرة, ولا تعني الحاجة إلى الإصلاح أن هنالك مشاكل في الدوائر أو المؤسسات الحكومية تستوجب حلولاً، وإنما هي عملية تطوير باقية ما دامت هذه الجهات والأجهزة الإدارية موجودة.
انطلاقاً من ذلك أعلن السيد الرئيس بشار الأسد المشروع الوطني للإصلاح الإداري.. فماذا يريد هذا المشروع؟؟
- المشروع الوطني للإصلاح الإداري يريد للإصلاح الإداري أن يكون أحد المهام المطلوبة من كل وزير في حدود وزارته.
- أن يكون الإصلاح الإداري أحد معايير تقييم أداء الوزراء.
- يريد مشروع الإصلاح الإداري من كل وزير أن يحدد كل عام واحدة من الإدارات التابعة لوزارته على الأقل، فيقوم بتطويرها أو يقوم بإلغائها نهائياً، إذا تبين أن تطورات المجتمع والتكنولوجيا والتقانة قد تجاوزتها.
- يريد هذا المشروع وكيلاً متفرغاً لشؤون الإصلاح الإداري في كل وزارة.
وهذا كله تأيد بتوجيهات سيادته بتكليف كل وزارة بإعداد رؤيتها للإصلاح الإداري بهدف استكمال المشروع الوطني للإصلاح الإداري والعمل على تهيئة أطره القانونية والإدارية وهيكليتها.
فكل وزير ضمن وزارته لابدّ أن يضع نظاماً واقعياً ودقيقاً لقياس أداء وزارته، وخطة فعّالة لرفع مستويات الأداء بها، فلا بدَّ أن يعلم الوزير ما هي الإدارات الأكثر نجاحاً في تطوير أدائها الإداري، وما هي الإدارات التي تسود فيها البيروقراطية، ولابدَّ أن يستحصل على تقرير سنوي مفصّل يبين العدد الدقيق للموظفين في الوزارة وما يتبعها من إدارات، وتوزيعهم بين الفئات المختلفة، وقياس دقيق لحجم الوقت التي يقضيه المواطنون بأروقة ودهاليز الوزارة ودوائرها، بحيث يصل إلى حد يرى فيه هذا الوقت يتراجع سنة بعد أخرى.
وهذا ما تم البدء به في وزارة العدل منذ بداية العام الحالي؛ حيث باشرنا بالعمل ذاتياً على محاولة إصلاح الخلل والتخلص من الترهل الإداري الذي تعاني منه الوزارة قدر الإمكان، والاستجابة لتحسين الخدمة المقدمة للمواطنين، من خلال وضع خطة عمل و رؤية تتواءم مع مبادئ ومعايير المشروع الوطني للإصلاح الإداري من جهة ومكونات الإصلاح الإداري في وزارة العدل من جهة أخرى والمتمثلة في:
- إصلاح وتحديث الهيكل التنظيمي وتحويله إلى هيكل رشيق فعّال وعملي.
- وضع نظم إسناد وظيفي وتوصيف وظيفي تراعي الكفاءات العالية.
- عدم أبدية الإدارات.
- تحديث الإجراءات الإدارية والخدمات التي تقدمها الوزارة إلى المواطنين لتكون أكثر مرونة وفعالية وشفافية، وأقل ضياعاً للوقت وهدراً للمال.
- تطوير الموارد البشرية والكفاءات والمهارات الشخصية على المستويات جميعها، من خلال برامج توعية وتدريب وتنمية إدارية مقترنة بنظام عادل ودقيق لتقييم الأداء مع وضع الحوافز والروادع المناسبة مدعومة بالتشريعات والسياسات التي تضمن تطبيقها بالشكل المناسب.
- تطبيق أحدث تقنيات للمعلومات والاتصالات لدعم عملية الإصلاح الإداري والقضائي.
- إيجاد نظام داخلي حديث يتواءم مع الرؤى الجديدة لوزارة العدل.
- برنامج الإصلاح الإداري لا يمكن أن يكلل بالنجاح إذا لم يتم التخطيط له بأسلوب علمي دقيق، ويكون وفق مبادئ ومعايير محددة، إضافةً إلى وجود رقابة دائمة وصارمة تتابع كافة خطوات تنفيذ الخطط الإصلاحية الموضوعة، من أجل اكتشاف الانحرافات وتصحيحها كما أنّه يوجد شرط أساسي وضروري من أجل نجاح برنامج الإصلاح؛ هو تهيئة الأفراد العاملين في الجهة العامة لتقبّل هذه الإصلاحات باعتبارهم القوة المحركة له.
انطلاقاً من هذا الوضع ومع غياب منهجية إدارية واضحة دقيقة ومعتمدة لعمل وزارة العدل فقد تمّ اعتماد خطة تقوم على عدة محاور تخللها محور يُعنى بالإصلاح والتطوير الإداري الذي ينصب على عنصرين:
- الموارد البشرية.
- البُنى التنظيمية.
وقد أولت الخطة جُلَّ اهتمامها لهذين العنصرين، لإدراكها ودرايتها بأن واقع الموارد البشرية والبُنى التنظيمية في وزارة العدل هو واقع متعثر ومليء بالثغرات والترهل، واليوم فإن الإصلاح الإداري لوزارة العدل يتضمن إعادة هيكلة إدارية تشمل إيجاد خارطة للموارد البشرية، باعتبار أنه لا أحد اليوم بوزارة العدل يعلم كم يبلغ عدد العاملين فيها من الفئة الأولى والثانية مثلاً، وما هو المؤهل العلمي لهم، وما هي الأعمال المسندة لهؤلاء العاملين، وما هي الأسس والمعايير المتبعة في المحاسبة، ما يعني غياباً تاماً لعدة مبادئ أساسية للوظيفة العامة “كالتوصيف الوظيفي وربط التقييم الوظيفي بالأداء النوعي، وقياس أداء الموظفين من خلال النظر إلى الأهداف الموضوعة من وزارة العدل….إلخ”
فالوضع الراهن لمديرية الموارد البشرية في وزارة العدل يشكل لها قلقاً وأرقاً كبيراً، نظراً لما يفرزه من سلوكيات ومشكلات تؤثر بشكل جدّي على عمل الوزارة ويمكن استعراضه من خلال ما يلي:
لنأخذ مثالاً كيف يتم اختيار الموارد البشرية في وزارة العدل؟ وهل هناك تدريب لهذه الموارد يلبي الطموحات؟ وما هي آلية التقييم؟
بالنسبة لاختيار الموارد البشرية يتم بالنسبة للعاملين دون تحديد الأهداف واختصاصات الوحدات الإدارية المرتبطة بالوزارة وبالسلطة القضائية، ودون مراعاة للتنسيق والانسجام فيما بينها، كما يتم وكما نعلم عن طريق إجراء المسابقات دون النظر إلى الظروف اللوجستية والإدارية المحيطة بعمل الوزارة، مما يجعل المسابقة غير محققة لأهدافها أضف إلى أن طرائق وأساليب الاختيار عاجزة عن كشف مدة كفاءة الموظف لشغل الوظيفة المطلوبة، مع التنويه إلى أن المشرفين على هذه الطرائق غير مؤهلين كفاية للقيام بمهمة الاختيار بفعالية وموضوعية.
هذا مع غياب واضح لمبدأ التوصيف الوظيفي الحقيقي للعاملين مما أدى إلى تضخم في بعض المفاصل الإدارية ونقص شديد في مفاصل أخرى.
أما بالنسبة للسادة القضاة فهنالك ابتعاد عن الموضوعية في تعيينهم، حيث يتم الإعلان عن المسابقة بشكل اعتباطي غير مدروس ودون الاستحصال على دراسة دقيقة لحاجة كل عدلية وضغط العمل فيها ودون الوقوف بدقة على عدد القضايا المسجلة بشكل يتناسب طرداً مع الزيادة المطلوبة لعدد القضاة.
أما لجهة تدريب الموارد البشرية فهنالك ضعف بالاهتمام بوضع برامج التأهيل وتدريب وتطوير قدراتهم ومهاراتهم، مما أدى إلى قصور في الأداء وهذا واقع غير صحي مع وجود مديرية للتأهيل والتدريب القانوني في الوزارة، أضف إلى عدم وجود خطط تدريبية متكاملة تعتمد على التحديد الدقيق لحاجات الجهاز الإداري وتكون بالمستوى المطلوب لتلبية احتياجات التنمية.
أما عن آلية التقييم المعتمدة في الوزارة فنلاحظ وجود معايير عامة لتقييم العاملين وغياب للأسلوب العلمي الحديث في تقييمهم وترقية السادة القضاة، وعدم تفعيل التفتيش الإداري فيما يخص العاملين والتفتيش القضائي بالنسبة للسادة القضاة.
من هنا قامت وزارة العدل وانسجاماً مع محاور المشروع الوطني للإصلاح الإداري برسم ملامح هيكلية إدارية جديدة قوامها قانون السلطة القضائية، ونظام العاملين الأساسي والمبادئ الإدارية المتعارف عليها حيث أولت اهتماماً لتحديد أهداف واختصاصات كل إدارة وكل وحدة إدارية في الوزارة وعدلياتها، حتى يتم اختيار الموظف المناسب للمكان المناسب، مع تفعيلها لمبدأ التوصيف الوظيفي للعاملين من خلال إحداث مكتب خاص لهذا الغرض مهمته إعداد البطاقات الوظيفية بالأعمال المسندة لكل موظف ومتابعة ما يطرأ من تعديلات على ذلك، والأخذ بعين الاعتبار حيث الإعلان عن مسابقة لاختيار العاملين على الحاجة الفعلية والظروف اللوجستية.
كما تعمل الوزارة وبشكل جدّي على إيجاد كادر مؤهل وقادر على القيام بمهمة الاختيار أثناء المسابقة بفعالية وموضوعية، مع اعتمادها بشكل رئيسي في ملء وظائف المساعدين القضائيين ودواوين المحاكم على خريجي المعهد التقاني الموجود في الوزارة، والذين تتوافر لديهم خبرات علمية وقانونية تتماشى مع متطلبات العمل القضائي، أضف إلى اعتمادها آلية جديدة لتعيين السادة القضاة تكفل استبعاد عاملي الفساد والمحسوبية في عملية الانتقاء حيث أصدر مجلس القضاء الأعلى مؤخراً القرار ذي الرقم /2503/ تاريخ 11/6/2018، نظمَّ فيه آلية لم تكن معنية سابقاً في تعيين القضاة بشكل يهدف إلى قبول شريحة متبعة من الحقوقيين في المعهد العالي للقضاء في الدرجات الدنيا أو العليا من الوظائف القضائية ممن تتوافر فيهم شروط ومعايير الكفاءة والجدارة .
ومن الجدير بالذكر أنَّ وزارة العدل وإيماناً منها بضرورة تأهيل وتدريب الموارد البشرية؛ فقد أولت هذا الموضوع عناية خاصة في خطتها الجديدة سواءً كان التدريب القضائي أو التدريب الإداري، من خلال إطلاقها برامج تدريب وتأهيل تنسجم مع مشروع أتمتة العمل القضائي، على أن تكون العملية التدريبية متواصلة ومستمرة وشاملة لكافة المستويات وذلك بالتنسيق مع المعهد العالي للقضاء .
ولما كان المشروع الوطني للإصلاح الإداري ضمن مفاهيمه ربط تقييم أداء الفرد بتقييم أداء الوزارة، مما دعانا إلى إحداث مكتب خاص ضمن الهيكلية الجديدة لمديرية الموارد البشرية تحت مسمى “مكتب تقييم الأداء” فيما يخص العاملين وتحديد اختصاصاته وأدواته والمعايير العلمية الحديثة الواجب الاعتماد عليها بدقة، بحيث يرتبط التقييم بالأداء الوظيفي ولا يبقى كيفياً ووفق معايير عامة وغامضة، مع طموحنا بالتعاون مع وزارة التنمية الإدارية الكريمة على إحداث ما يسمى ((مكتب قياس الأداء)) .
كما نؤكد في خطتنا على ضرورة ربط التقييم بمبدأ التدرج المهني للقاضي والاعتماد في توزيع العمل بين السادة القضاة على مبدأ الكفاءة والجدارة مع مراعاة عنصر الزمن والخبرة والتخصص بحيث تكون مسيرة القاضي مرهونة بمراعاة هذه العناصر وليست كيفية.
لا شك أن البُنى التنظيمية الصحيحة تنتج إدارة ناجحة وبنظرة سريعة على الهيكل التنظيمي في وزارة العدل، نلاحظ عدم وجود نظام داخلي حديث معتمد يلبي متطلباتها في الإصلاح الإداري والقضائي، لا سيما بعد التوسع الكبير الذي شهدته الوزارة من خلال إحداث محاكم وزيادة في الكادر القضائي والإداري، وإحداث إدارات جديدة ليس لها دليل في عملها واختصاصاتها، أضف إلى الضعف والترهل الذي يطال الإدارات القضائية ولاسيما إدارة التشريع و إدارة التفتيش القضائي سواءً في بنيتها التحتية و دورها.
وعليه فإننا نقوم حالياً بتعديل النظام الداخلي الحالي، وإعادة تحديد مهام كل إدارة ومديرية في الوزارة، بشكل حديث يتناسب مع الرؤى الحديثة لوزارة العدل ومع هيكلها التنظيمي الجديد، إضافةً لوضع هيكلية تنظيمية جديدة لكل عدلية بكل محافظة سواءً للوظائف القضائية أو الإدارية.
كما ونعمل على تفعيل إدارة التفتيش القضائي آلية جديدة تعتمد على عدة نقاط :
- تفعيل دورها في الحماية وليس الاقتصار على المحاسبة.
- تقنين آلية عملها أصولاً.
- إيجاد كادر قضائي ووظيفي كافٍ ومؤهل بشكل جيد، للقيام بعمل التفتيش وإخضاع عمله بالتفتيش للمراقبة الدورية والتقييم من قبل رئيس إدارة التفتيش .
- وضع أُسس محددة وموضوعية معتمدة من قبل الإدارة ذاتها في أدائها لدورها.
ولا نستطيع إلا أن نعمل وبشكل متوازٍ مع ذلك في تفعيل إدارة التشريع أيضاً من خلال إعادة هيكليتها ورفدها بعناصر قضائية كفوءة .
ولإيماننا بتطوير العمل القضائي والإداري للإصلاح الإداري في وزارة العدل بما ينسجم مع متطلبات المشروع الوطني؛ فوجدنا ضرورة ملحة لإحداث إدارات جديدة تدعم الهيكل التنظيمي للوزارة وتنظم عمل قضايا معينة، حيث نتجه إلى إحداث إدارة للتحكيم مهمتها تنظيم وتوحيد العمل بالقضايا التحكيمية، والإشراف على مراكز التحكيم باعتبار وزارة العدل هي المختصة بالترخيص لها، والعمل على إصدار قانون ينظم عملها وآليتها .
أضف إلى إحداث إدارة للتنظيم المؤسساتي: مهمتها تنظيم العمل بين الإدارة المركزية وتوابعها، وهي قيد الدراسة للاستفادة قدر الإمكان منها.
ولما كانت وزارة العدل هي المسؤولة عن إعطاء مؤشرات وإحصائيات دقيقة عن نوعية الجرائم المرتكبة ونسبتها بهدف إعادة فرض العقوبات تشديداً أو تخفيفاً بما يتلاءم مع هذه المؤشرات؛ فقد أحدثت بنك الجريمة وألحقته بمكتب الإحصاء الموجود في الوزارة.
أخيراً وليس آخراً..
نجاح وزارة العدل في مشروع الإصلاح الإداري يكمن من إيمانها وقناعتها وإرادتها لهذا الإصلاح الذي تحاول الوصول إليه رغم كل الصعوبات, فالإيمان بالهدف يعطي الشخص أو المؤسسة الحماسة الكافية للعمل على تحقيقه, ومن يسعى وراء هدف لابَّد أن يصل إليه مهما طالت المسافة, ومن يسعى وراء الأوهام لن يصل حتى ولو كانت على بعد خطوة, فلا شيء مستحيل مع الإرادة فمن أراد استطاع, ووزارة العدل إن شاء الله تستطيع وستصل إلى الإصلاح الإداري المنشود بالتعاون مع الجهات المعنية كافة.
Discussion about this post