بقلم: الدكتور طارق عفاش
يكثر الحديث هذه الأيام في أوساط المسؤولين والمفكرين عن تشجيع الاستثمار الخاص في الدول النامية على اختلاف سياساتها، فقد تبين أن هذه الدول مهما حاولت لا تستطيع وحدها الإيفاء بمتطلبات التنمية والاستثمار، وأن تمويل الاستثمار عن طريق الاستدانة الداخلية أو الخارجية له عواقبه السلبية على معدل التضخم، ولا يمكن الاستمرار فيه بغير حدود.
كذلك تبين من التجربة الذاتية لهذه الدول أن التوسع في القطاع العام والتحكم الشديد في أحواله يجر إلى اتباع سياسات الحماية من المنافسة، مما يؤدي إلى مزيد من العجز في الموازنة العامة للدولة، ومزيد من تخلف القطاع الصناعي في مجال المنافسة العالمية.
من هنا جاءت المناداة بتشجيع الاستثمار الخاص، وقدمت الدول النامية الكثير من الإعفاءات الضريبية والحوافز المالية، وأسرفت فيها بغرض جذب الاستثمارات الداخلية والخارجية.
وعولت كثيراً على هذا الأمر بغرض حل مشكلاتها، غير أن النتائج لم تكن في حجم الآمال، بل على العكس من ذلك اتجهت كثير من مدخرات الدول النامية إلى خارج دولها فيما يعرف بظاهرة هروب رؤوس الأموال.
ما هي إذن العوامل التي تؤثر بصورة واضحة في احتمالات زيادة الاستثمارات الخاصة وطنية كانت أم أجنبية؟
وحتى نتفهم هذه العوامل علينا أن نتذكر أن قرار الاستثمار يتخذه في النهاية فرد أو مجموعة أفراد (يمثلون المساهمين في الشركة)، بعد دراسة احتمالات العائد المالي للمشروع واحتمالات المخاطر التجارية وغير التجارية له، وذلك في ضوء المقارنة بالفرص البديلة في أماكن أخرى، وإذا كانت أموال البلدان النامية أو غيرها تتجه إلى الإستثمار في الخارج؛ فليس معنى هذا أن فرص الإستثمار الناجح في الدول النامية نفسها غير متوافرة، بل إن معناه أن الفرص البديلة هي فرص أفضل في تقدير المستثمرين (ولو كان عائدها المالي أدنى)، ويرجع ذلك إلى أن قرار الإستثمار يتعلق بالعديد من الإعتبارات ومن أهمها:
أولاً: وجود بيئة اقتصادية كلية مستقرة في الدولة المقرر الاستثمار فيها، وكذلك وجود سياسات اقتصادية ومالية سليمة وشفافة حين يمكن قراءة ميزان المدفوعات والميزانية العامة ومعدلات التضخم وسعر الصرف وسعر الفائدة ومعدلات الضرائب ونظام الأسعار والأجور ومدى التدخل الحكومي فيهما، ومدى قدرة وكفاءة الأجهزة الحكومية المسؤولة عن إدارة الاقتصاد، وتلك التي يتعامل معها المستثمر، ولا شك أن كل ذلك من شأنه أن يعزز الثقة ويشجع على الإستثمار.
ثانياً: وجود قطاع مالي قوي يتميز بالمرونة والقدرة على التجديد والإستجابة للحاجات المتغيرة وعلى التنافس مع المؤسسات المالية الخارجية، لا يقتصر ذلك على تحديث المؤسسات المصرفية، وإنما يقتضي تطوير تشريعات الرقابة وأجهزة الجباية والتمويل مع استحداث إطارات قانونية ومحاسبية سليمة وأوعية مرنة لتجميع المدخرات، بما في ذلك مدخرات صغار المودعين واستخدامها في أغراض استثمارية.
إن القطاع المالي هو محرك أساسي وفعال للمناخ الاستثماري العام، وينعكس تخلفه وضعفه على كل أوجه الاستثمار، لذلك يبدو من الضروري أن يتوافر قطاع مالي متطور وقادر على تحويل السيولة المالية المتزايدة إلى استثمارات حقيقية في المجالات الإنتاجية.
ثالثاً: وجود قوانين ولوائح تنظيمية عادلة وفعالة تضمن عدالة التعامل مع الأطراف المختلفة والكفاءة في التنفيذ، وحل المنازعات إذا نشبت بين المستثمر والجهات الحكومية، فلا شك أن من أكثر الأشياء التي توقف المستثمرين الجادين عن التفكير في دولة معينة عدم توافر حماية قانونية كافية لحقوق الملكية والعقود، والإسراف في التعقيدات الإدارية والقيود والتباطؤ في إجراءات التقاضي.
رابعاً: توافر البنية التحتية والخدمات اللازمة للإيفاء بمتطلبات الإستثمار من كوادر بشرية مؤهلة قادرة على إدارة المشروعات وتشغيلها، ومن طرق وموانئ ووسائل اتصال وكهرباء ومياه بل يشمل أيضاً الخدمات الإستشارية أو المحاسبة.
ولابدّ في النهاية من الإشارة إلى أن مناخ الاستثمار يتأثر أيضاً بالعوامل الخارجية سيما الإجراءات الظالمة التي تتخذها الولايات المتحدة وحلفاؤها أحياناً للحدّ من تطور بعض الدول النامية، أو الضغط عليها لاتباع سياسات معينة، غير أن ذلك لا يجوز أن يثنينا عن محاولة توفير أنسب مناخ للإستثمار في الداخل.
Discussion about this post