العالم الاقتصادي – متابعات
بالتزامن مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما ترتّب عليها من استنفار سياسي وشعبي في دول حلف شمال الأطلسي تحديدًا، الذي تمثّل في مد جسور لنقل الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا، وإقرار أعضاء الحلف بميزانيات دفاعية بمئات المليارات، تجدد السؤال حول من هو المستفيد الحقيقي من الحرب؟ وهل الحرب مفيدة للاقتصاد أصلًا؟
إذ عبر لورين طومسون، مدير العمليات بمعهد ليكسينجتون ومستشار الصناعة الدفاعية، والمستشار لعدة شركات مثل «بوينج»، و«جنرال دايناميكس»، و«لوكهيد مارتن»، و«رايثيون تكنولوجيز»، لـ صحيفة «البليتكو» الأمريكية عن الوضع الآن قائلًا: «بالنسبة لصناعة الدفاع، عادت الأيام السعيدة هنا مرة أخرى، فعندما ترتفع ميزانية الدفاع، فإنها تميل إلى رفع جميع القوارب في الصناعة».
وجاءت تصريحات طومسون، عقب تعهُّد أعضاء حلف «الناتو» في المملكة المتحدة وألمانيا وبلجيكا ورومانيا وإيطاليا وبولندا والنرويج والسويد، بإنفاق عسكري ضخم، ويتزامن تقديم إدارة بايدن طلب ميزانية 2023 إلى الكونجرس، وضمنها 773 مليار دولار للبنتاجون، بزيادة 30 مليار دولار عن هذا العام.
لذا فهناك من يعتقد بالفعل أن الحرب مفيدة للاقتصاد من ناحية زيادة الإنتاج العسكري، وهناك سياق تاريخي فعلًا يدعم هذا الاعتقاد العام، أبرز محطاته كانت مساهمة الحروب العالمية، الساخنة منها والباردة، في تطوير اقتصاد عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا.
ففي فبراير (شباط) عام 2008، طرح الصحفي الاقتصادي الأمريكي، جيف مادريك، سؤال وهل الحرب مفيدة للاقتصاد؟ في مقال له بينما كان الرئيس الأمريكي حينذاك، جورج بوش، يطلب من الكونجرس الموافقة على ميزانية بقيمة 3 تريليونات دولار، وهي تكلفة العملية العسكرية في العراق.
وأقرّ مادريك حينها أن الإنفاق العسكري يخلق المزيد من الوظائف، ويزيد الطلب على السلع والخدمات الأمنية، وبالتالي استنتج مادريك أن الإنفاق العسكري يفيد الاقتصاد ولا يضرّه، وفي المقابل، يرى العديد من الاقتصاديين أن الإنفاق العسكري يؤدي إلى فقدان الوظائف على المدى الطويل.
واشنطن.. من الركود إلى اقتصاد الأموال الساخنة
في الخامس من سبتمبر (أيلول) 1945، انطلقت تظاهرات ضخمة من غرفة تجارة مدينة سياتل، وسارت التظاهرة في أرجاء المدينة، حتى استقرت في وسطها، بعد أن تحولت من تظاهرة عُمالية بحتة لاحتجاج شعبي يجمع كافة أطياف سكان المدينة، رافعين شعار، «لا لتخفيض الإنفاق العسكري».
كان السبب في خروج التظاهرات حينها هو إلغاء القوات الجوية الأمريكية، أوامر شراء طائرات «B- 29» القاذفة التي لعبت دورًا كبيرًا، في تفوق واشنطن في حرب المحيط الهادئ، والتي كانت من إنتاج شركة «بوينج» عملاق التصنيع الأمريكي، ومع اقتراب نهاية الحرب واعتماد سياسة تخفيض النفقات العسكرية، أجبرت تلك الخطوات شركة الطائرات على فصل أكثر من 20 ألف عامل، أي ما يقرب من نصف القوة العاملة للشركة في مدينة سياتل.
وبذلك، اعتبر الكثير من الناس أن إنتاج «بوينج» ضروري لرفاهية سياتل، بل ورفاهية واشنطن كلها، ومع فشل الحملة لاستعادة الإنفاق العسكري، بحلول نهاية العام، انخفض توظيف «بوينج» في سياتل من 50 ألف إلى أقل من 9 آلاف عامل، ثم أغلقت الشركة المصنع الذي كانت تستخدمه في مدينة «رينتون» المجاورة، ما أضر بمجتمع العاصمة.
فعلى الرغم من أن واشنطن هي العاصمة السياسية للولايات المتحدة، فإن نيويورك كانت درة التاج الاقتصادي في البلاد، فيما كانت واشنطن تسحب الأضواء والأموال من نيويورك في فترات الحروب فقط.
إذ بُنِيَتْ هياكل الاقتصاد لمدينة واشنطن، منذ بداية القرن التاسع عشر، على أهميتها باعتبارها ميناءً لتجارة الأخشاب والقمح، مَهَّدْت لها المعاهدات الهندية الحكومية الفيدرالية ومنح الأراضي للسكك الحديدية.
وخلال الحرب العالمية الأولى، غذّى الإنفاق الفيدرالي نمو أحواض بناء السفن، وبدأ في منح واشنطن قاعدة صناعية، غير أن الإلغاء المفاجئ لبناء السفن في نهاية الحرب قضى على هذه القاعدة وترك المدينة مرة أخرى تعتمد بشكل أساسي على تصدير القمح والأخشاب.
دفتر أستاذ أمريكي بعنوان «ميزانية الحرب» في أربعينيات القرن الماضي
وعبر دراسة صادرة عن «معهد الاقتصاد والسلام»، التي استخدمت بيانات مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي، يمكن تحليل الدور الذي لعبته الحرب العالمية الثانية في إنهاء الركود الاقتصادي المُسمى بـ«الكساد الكبير» منذ عام 1929 حتى عام 1940.
إذ حوّلت الحرب العالمية الثانية واشنطن إلى خلية مصانع الأسلحة، وتلقت المدينة أكثر من نصيبها من الإنفاق العسكري الفيدرالي، وكانت الجغرافيا من أهم أسباب تفضيل الجيش لواشنطن على باقي الولايات الأمريكية؛ حيث تمتلك ميناءً عميقًا ويسهل نسبيًا الدفاع عنه عسكريًا متمثلًا في حوض «بوجيه ساوند» البحري، مما يجعله مركزًا مثاليًا للبحرية الأمريكية، وظلّ ميناء «بوجيه ساوند» في بريميرتون، أحد أكبر مراكز بناء السفن في الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، ولا يزال حتى اليوم، ميناء رئيسي لأسطول البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ.
وفي الستينيات، أرادت البحرية بناء غواصات «ترايدانت» التي تعمل بالطاقة النووية، فجرى بناء موقع دعم «ترايدانت» بمدينة «بانجور» في واشنطن، واليوم، تعد «بانجور» الميناء الرئيسي لجميع الغواصات النووية الأمريكية الموجودة في المحيط الهادئ.
وهكذا استفادت واشنطن من الحرب العالمية الثانية التي كانت فريدة للغاية من ناحية زيادة الحجم الهائل للموارد المخصصة للدفاع، والتغييرات المرتبطة بهيكل اقتصاد السوق، إذ شهدت سنوات الحرب من العام 1939 إلى العام 1945، إحدى أهم الزيادات الاقتصادية على المدى القصير في تاريخ الاقتصاد الأمريكي.
ففي تلك الفترة عمل أكثر من 20% من السكان في القوات المسلحة، وبالإضافة إلى ذلك فإن معظم المناصب التي أنشأها الإنفاق الدفاعي كانت وظائف عالية الأجر، وبالتزامن مع انخفاض معدل البطالة بشكل كبير من 14.6% في العام 1940 إلى 1.9% في العام 1945، كان مئات الآلاف يرتقون اجتماعيًا.
فبينما بلغ متوسط معدل البطالة في واشنطن حوالي 10% في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، كانت البطالة في واشنطن أقل من 5% خلال الخمسينيات والستينيات، وقفز عدد سكان واشنطن من 2.37 مليون في عام 1950 إلى 3.41 ملايين في العام 1970.
وساعد الإنفاق العسكري في الحرب الباردة على تحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية في واشنطن تحديدًا، إذ ضخّ البنتاجون مليارات الدولارات في اقتصاد واشنطن خلال «سنوات الازدهار» للإنفاق الدفاعي للحرب الباردة بين عامي 1950 و1970، عن طريق الدين الحكومي والضرائب، التي زادت بمقدار خمس وست مرات على التوالي من عام 1941 إلى عام 1945.
بوينج.. عملاق الحرب وقاطرة لاقتصاد واشنطن
كانت «بوينج» العملاق الحقيقي لاقتصاد واشنطن خلال الأربعينيات وكذلك خلال الحرب الباردة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ وفّرت «بوينج» أكثر من نصف الوظائف الصناعية في منطقة سياتل، واعتمد اقتصاد منطقة «بوجيت ساوند» بأكملها إلى حد كبير على الحالة الاقتصادية للشركة، التي عُدّت أكبر شركة توظيف في واشنطن.
ويمتد تاريخ «بيونج» لعام 1910 حين اشترت حوض بناء السفن «وليام هيث» في سياتل واشنطن، وتأسست الشركة في سياتل على يد صانع الأخشاب، وليام بوينج، الذي اختار واشنطن للاستفادة من الإمدادات المحلية من خشب شجرة التنوب.
وبتاريخ 15 يوليو (تموز) 1916، أصبحت سياتل تمتلك مصنع أول طائرة، ودفع قرار القوات الجوية بشراء طائرات «بوينج بي 52»، إلى النمو السريع في سياتل في أواخر الأربعينيات، وسمحت أرباح B- 52s للشركة بتطوير أول طائرة تجارية لها 707، الأمر الذي مهّد لأن تصبح «بوينج» أكبر مورد للطائرات التجارية في العالم، في الخمسينيات والستينيات القرن الماضي، كما أدت الحرب إلى زيادة قوة عمل «بوينج» من 4 آلاف موظف عام 1940 إلى أكثر من 50 ألف موظف بحلول عام 1944.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، انخفض موظفو بوينج لأقل من 10 آلاف، ولكن الحرب الباردة التي انطلقت في 1946 حفزّت السوق العسكرية، فباعت «بوينج» وسائل النقل، والقاذفات في تلك السوق، وبدأت في تسليم طائرات B- 50، (نسختها المحسّنة من B- 29) وكذلك طائرات «Stratocruisers» و«Stratofreighters»، ومضت الشركة قدمًا في تطوير القاذفات النفاثة والصواريخ الموجهة، وأعادت فتح المصانع المملوكة للحكومة في رينتون وويتشيتا التي كانت تعمل خلال الحرب.
كما صوت الكونجرس بأغلبية ساحقة في 1948، على زيادة مشتريات الطائرات من أقل من 2000 إلى أكثر من 5 آلاف طائرة، وبحلول ربيع عام 1948 كانت «بوينج» قد كثفت من عمليات التوظيف في سياتل حتى وصلت إلى أكثر من 18 ألف موظف.
وقدم قرار ترومان في عام 1950 بالتدخل في الحرب الكورية، فرصة لازدهار بوينج إذ تضاعفت الميزانية العسكرية إلى 50.4 مليار دولار في 1953، وتلقت «بوينج» حصة كبيرة من أموال القوات الجوية، فوسعت الشركة قوة العمل في سياتل مرة أخرى، وشيدت مبانٍ جديدة.
فكانت أموال وزارة الدفاع محفّزًا لـ«بوينج» للتوسع، إذ وظفت الشركة حينها أكثر من 28 ألف شخص بحلول الصيف العام 1951، للعمل في تصنيع، طائرات C- 97s، والصواريخ الموجهة، وجهاز للتزود بالوقود على متن الطائرة، وطائرات و B- 50s و B- 52.
ومع ذلك، وفي أوائل السبعينيات اتضح أن اقتصاد واشنطن لا يزال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالإنفاق العسكري، ففي العام 1970، فواجهت شركة «بوينج» في الوقت نفسه ركودًا في سوق الطائرات التجارية، وخسارة العقود العسكرية، إذ بدأت الولايات المتحدة في الانسحاب من فيتنام، وبدا في الأفق انفراجة في العلاقات مع موسكو وبكين.
كما خفضت الحكومة ميزانيتها الدفاعية، وترتب على ذلك فصل «بوينج» ما يقرب من ثلاثة أرباع قوتها العاملة، وتراجع اقتصاد واشنطن، لينخفض عدد سكان الولاية لأول مرة منذ أكثر من قرن، وانخفض عدد سكان سياتل بسرعة كبيرة، لدرجة أن السكان وضعوا لوحة إعلانات على طول الطريق السريع 5 عند خط المدينة: «هل يمكن لآخر شخص يغادر سياتل أن يطفئ الأنوار؟».
Discussion about this post