بقلم: أ.د. عبد الله المجيدل
تعدّ التربية العامل الرئيس لتحقيق أهداف التنمية في المجتمع، فالتنمية لا تقتصر على النمو الاقتصادي وحسب, بل تشمل عملية التغيير الواعية بأبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية، إذ تهدف بالإضافة إلى تحقيق زيادة منتظمة في الدخل الحقيقي للفرد، فهي تهدف أيضاً إلى نموه الشخصي والمهني ورفاهيته وقدرته على اتخاذ القرار والمشاركة الاجتماعية والسياسية بمجتمعه والاستفادة من مؤسساته المجتمعية.
وبات من المسلم به أن التربية لا يمكن أن تحقق أهدافها، دون إسهام جميع مؤسسات المجتمع، وتضافر جهودها، والتنسيق فيما بينها من خلال التخطيط الشامل, وأن التربية بصفة عامة، والتعليم الرسمي بصفة خاصة، هما المحددان الرئيسان لكفاءة المورد البشري المحرك لهذه المؤسسات، والمحدد لقدرتها على أداء دورها, وتقع على عاتق التعليم الرسمي مسؤولية مواجهة متطلبات التنمية على المدى القريب والبعيد، مع علمنا أن التعليم الرسمي في حد ذاته، من خلال السلم التعليمي، وعدد سنوات الدراسة، ليس ضماناً لتحقيق أهداف التنمية, وإنما نوعية هذا التعليم، ودرجة كفاءته وارتباط أهدافه بواقع المجتمع ومتطلباته التنموية وطبيعة العصر، ومتطلبات التنمية هي المحددة لنتائج النظام التعليمي، ويتأثر التعليم الرسمي بدوره بالتربية غير الرسمية والنظام الأسري والاقتصادي والسياسي للدولة والمستوى المعرفي والتكنولوجي والنسق القيمي السائد ويؤثر بدوره فيها محدداً درجة إسهامها في تحقيق أهداف التنمية.
ويتضح دور التربية في عملية التنمية، بالنظر إلى الأهمية الاقتصادية لرأس المال البشري، كعنصر رئيس في مختلف عمليات الإنتاج، مما يستوجب دراسة أسباب القصور في النظم التعليمية لتحقيق أهداف التنمية، وإعادة تقييمها لتجويدها كماً ونوعاً، وتحسين كفاءتها لمسايرة متطلبات العصر ومواجهة متطلبات التنمية, ودراسة الإهدار التربوي بالنظر إلى أن التربية عملية استثمار في رأس المال البشري ينتج عنها عائد على الفرد والمجتمع، كأي مشروع استثماري.
فالتربية حامل أساسي لعملية التنمية، وهي ليست مرتبطة بالمؤسسات التعليمية لوحدها وإنما هي عملية تكاملية تسهم فيها كثير من مؤسسات المجتمع، ومن خلال النظم التعليمية استطاعت كثير من البلدان تحقيق التقدم العلمي، والتطور الحضاري، وبسبب قصورها بقيت أيضاً كثير من البلدان رهينة حالة التخلف، وهنا تكمن أهمية التربية للشعوب والأمم الجادة في مشاريعها النهضوية والتي تحاول الاستفادة من التربية في بناء إنسان التنمية وإنسان النهضة وبالتالي أسرة النهضة ومجتمع النهضة وأمة النهضة.
الأهمية الاقتصادية للعنصر البشري
يُمثل العنصر البشري عنصراً أساسياً من عناصر الإنتاج، بل يعدّ من أكثر عناصر الإنتاج أهمية، من حيث قيمته الاقتصادية، والاجتماعية في العصر الحديث، الذي يتسم بالتقدم المعرفي والتكنولوجي الهائل، ويرى “ألفريد مارشال” أن الإنسان بإمكانه عن طريق العلم والمعرفة والكفاءة في العمل وقدرته على الخلق والإبداع، السيطرة على الثروة الطبيعية في مجتمعه وحسن استثمارها مستخدماً كل ما اكتسبه من خلال التعليم من معرفة، ومهارات، وقيم، واتجاهات، ومعايير اجتماعية مرتبطة بالعمل والبحث والتجريب والإنتاج، وقد أوضح هاربسون Harbison دور العنصر البشري في الإنتاج، كما ويؤكد علماء الاقتصاد والاجتماع على الأهمية الكبرى لرأس المال البشري كمحرك وموجه لعملية التنمية فالتعليم يهيئ أكاديمياً ومهنياً واجتماعياً القوى البشرية التي يحتاجها سوق العمل، والخدمات والخبرات والمهارات والنسق القيمي المساند للعمل والإنتاج، فكل ما اكتسبته القوى العاملة من معارف ومهارات واتجاهات ونسق قيمي من خلال التعليم، يحدد إلى درجة كبيرة نتائج عملية التنمية بالمجتمع.
ومن الطبيعي أن تُخصص كثير من الدول النامية، نتيجة للاهتمام والمطالبة بالتنمية البشرية المستديمة، جزءاً كبيراً من دخلها القومي للتعليم الرسمي، باعتباره المسؤول الأول عن إعداد وتأهيل القوى البشرية، هذا وقد أعطت نظريات رأس المال البشري التي سادت في فترة الستينات والسبعينات، أهمية كبيرة لدور التربية في تنمية الموارد البشرية، حيث أشار كل من فردريك هاربسون وشارلز مايرز Harbison & Mayers إلى أن تنمية الموارد البشرية يُمثل مؤشراً صادقاً وواقعياً للتحديث والتنمية.
التربية والتنمية الاقتصادية
يُمكن حساب النمو الاقتصادي عن طريق مقارنة الدخل القومي للدولة في سنة محددة بسنة أخرى، مع الأخذ في الحسبان نسبة التضخم، وعلى الرغم من صعوبة حساب النمو الاقتصادي، ولا سيما إذا كان لفترات طويلة، لصعوبة تقدير نسبة التضخم خلال هذه الفترات، وتعكس الزيادة في معدل الدخل القومي الزيادة المادية في الدخل فقط، وليس إسهام هذا الدخل في الرفاهية الاجتماعية في المجتمع، وبذلك فإن زيادة الدخل القومي نتيجة لزيادة الكفاية الإنتاجية للعامل، كنتيجة للتعليم والتدريب لا تؤدي بالضرورة إلى رفع مستوى المعيشة بالمجتمع أو تحقيق الرفاهية الاجتماعية لأفراده، ولكن ليس معنى ذلك أنه ليس هناك آثار إيجابية للنمو الاقتصادي، فإنه يؤدي بالضرورة إلى رفع المستوى المعيشي العام بالدولة، حيث إنه يساعد على إعادة توزيع الدخل مما يضمن زيادة دخل الطبقات الكادحة، فالدخل القومي يساعد على زيادة دخل الطبقات الفقيرة أكثر من الدخل الثابت نسبياً.
بينما التنمية بمعناها الشامل تتضمن النمو الاقتصادي وإشباع الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع بما فيها الحاجة إلى تحقيق الذات، من خلال الإنتاج وحرية التعبير، والتفكير والقدرة على الإنتاج المستمر في القطاعات كافة، والنمو الشخصي لأفراد المجتمع، وبذلك يمكن تعريف التنمية: بأنها العملية المجتمعية الواعية الموجهة نحو إيجاد تحولات في البناء الاقتصادي الاجتماعي، تكون قادرة على تنمية طاقة إنتاجية مدعمة ذاتياً، تؤدي إلى زيادة منتظمة في متوسط الدخل الحقيقي للفرد على المدى المنظور، وفي الوقت نفسه تكون موجهة نحو تنمية علاقات اجتماعية سياسية، تكفل زيادة الارتباط بين المكافأة وبين كل من الجهد والإنتاجية، كما تستهدف توفير الحاجات الأساسية للفرد وضمان حقه في المشاركة وتعميق متطلبات أمنه واستقراره في المدى الطويل، كل هذا في ظروف لا يتسلل إليها الفساد بكل أشكاله، أما إذا تسرب الفساد، عندها لا يمكن لكل نظريات التنمية أو نظريات الاقتصاد أن تشفع في الخروج من حفرة التخلف والانهيار.
العلاقة بين التربية والتنمية
إن العلاقة بين التربية والتنمية هي علاقة تاريخية، حيث بدأ الاهتمام يتزايد بمشكلة التنمية بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بسبب التغيرات التي واجهتها أوروبا بعد أن دمرتها الحرب، وهي المشكلة ذاتها التي واجهت الدول التي استقلت ونفضت عنها غبار الاستعمار، وشرع كثير من هذه البلاد في البحث عن الأساليب المناسبة لرفع مستوى المعيشة، والقضاء على مظاهر التخلف، وشكلت هذه القضية المهمة الأولى التي تواجه الحكومات، التي ترى في القدرة على أنجازها، معياراً للحكم على مدى نجاح هذه الحكومات، والتنمية فيها، كما أسلفنا، تحتاج إلى كثير من المقومات البشرية وغير البشرية، إلا أنه يكاد يجمع المهتمون بقضية التنمية على أن العنصر البشري هو أهم هذه المقومات، إذ يعد العنصر البشري العنصر الأساسي والركيزة التي تقوم عليها التنمية في أي بلد، ولا سبيل إلى بناء الفرد إلا عن طريق التربية التي تقوم على تطوير الشخصية الإنسانية وإعادة بنائها، كما تعمل التربية على إيجاد أنماط من السلوك تناسب التنظيمات الاجتماعية الناتجة عن الأخذ بالأساليب العلمية والتكنولوجية، كما تعيد التربية بناء الآراء والمعتقدات لتواكب التغيرات الاجتماعية الناشئة عن عملية التنمية، ومن هنا يتضح أن الإنسان هو أساس التنمية وأداتها وهو أيضاً غايتها وهو في الوقت نفسه محور العملية التربوية.
ولعل أهم سمة من سمات التنمية، هي تأهيل القوى البشرية وإعدادها للعمل في مختلف القطاعات وعلى كل المستويات، وذلك بتزويدها بالمعارف، والمهارات والقيم اللازمة للعمل المستهدف، والتهيئة للتعايش مع العصر التقني والتوازن في تأهيل القوى العاملة حسب الاحتياجات المتغيرة، وكذلك تعزيز قيمة العمل والإنتاج ودعم الاستقلالية في التفكير ونبذ الاتكالية والنزعة الاستهلاكية، وهي من الأهداف الرئيسة للتربية.
من هنا نجد أنه يمكن للتربية أن تقوم بدور بارز في تحقيق التنمية، ولا شك أن الذي زاد من علاقة التربية بالتنمية، وخاصة في منتصف هذا القرن، هو الاقتصاد كمحور مهم، عندما ظهرت بعض النظريات المهمة مثل نظرية رأس المال البشري، والتي تعتبر بمثابة الإطار النظري المسؤول عن التبني الكامل للعلاقة الجدلية بين التعليم وسياسات التنمية، وهو الإطار الذي أصبح التعليم بمقتضاه العامل الحاسم في النمو الاقتصادي للدول، ومع ظهور هذه النظرية زاد الاقتناع بدور القدرة الإنتاجية للموارد البشرية في العملية التنموية واعتبارها رأس مال مستثمرة، ولعل الدور الأكبر لانتشار هذه النظرية يعود إلى وكالات التنمية الدولية مثل البنك الدولي، واليونسكو، ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي وغيرها، وهذه النظرية أدت إلى زيادة الإنفاق على التعليم عالمياً، وربطت التعليم بقضية الإنتاج فتضخمت الاستثمارات في قطاع التعليم وأجريت البحوث والدراسات حول إسهام التعليم في النواحي الاقتصادية وغيرها من نواحي التنمية الأخرى.
ولا يكفي توافر إرادة البناء، وخطط نجاح التنمية رغم أهميتهما القصوى، إذ لابد من توافر قدرات وموارد بشرية مبدعة، وخلاقة لتحوّل هذه التصورات والخطط التنموية إلى واقع ملموس، من هنا تبرز أهمية تنمية مختلف قدرات الإنسان واستثمارها في عملية التنمية، انطلاقاً من حقيقة أن الإنسان هو أداة عملية التنمية وغايتها، فالتنمية تحتاج إلى تخطيط استراتيجي متعدد الأبعاد، وتشخيص الاحتياجات والأهداف والغايات، والفرص والتحديات والموارد، وخطط العمل ثم التنفيذ والتقويم يترافق ذلك بنظام تعليمي متطور وفعال.
فالتنمية في جوهرها تتضمن تمكين الفرد من الشعور بالمسؤولية المشتركة في احترام أساسيات الحياة وحقوق الإنسان، إذ تدفع كل فرد للتفكير في موقعه في هذا العالم، وفي معنى التنمية المستدامة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، بالنسبة له وبالنسبة للمجتمع، كما تعمل على تطوير المهارات اللَازمة للمشاركة في بناء هذا المجتمع.
من خلال التربية على قيم التنمية ومهاراتها الحياتية ابتداء من التعليم الأساسي إلى الجامعي، وأيضا في التربية النظامية وغير النظامية، من أجل ترسيخ الوعي بتعقيد وترابط التحديات التي يواجهها مستقبلنا، هذه النظرة التربوية ترتكز على مقاربة شمولية لتطوير المعارف والكفايات المأمولة، من أجل مستقبل مستدام وتعزيز القيم والسلوكيات وأنماط الحياة اللازمة، كما أن التربية لا يمكن أن تكون فاعلة في عملية التنمية بمعزل عن البيئة المحيطة بها، وهو ما تعاني منه بلدان العالم الثالث التي استوردت أنظمة تعليمية من الدول المتقدمة، دون تكييفها مع بيئاتها، بما يتناسب مع القيم والهويات الثقافية الذاتية الخاصة بها، بهدف إحداث التنمية مما أدى إلى حدوث تربية وتنمية قاصرة ومشوهة، ولكي تحقق التربية دورها لا بد أن تستند إلى “فلسفة مجتمعية للتنمية “تنبثق منها بدورها “فلسفة خاصة للتربية” المحققة للتنمية المستهدفة وهي التنمية الشاملة المتوازنة، ومن هذه الفلسفة التربوية يتم اشتقاق السياسات التربوية والاستراتيجيات التربوية وخطط العمل التنفيذية.
Discussion about this post