العالم الاقتصادي- رصد
تضع الحكومة الإسبانية اللمسات الأخيرة حالياً على خطة طموح للإنعاش الاقتصادى برعاية الاتحاد الأوروبي. ويبدأ تطبيق هذه الخطة فى مطلع العام المقبل، وتعتمد على استثمارات هائلة تضخ فى شرايين الاقتصاد الإسباني، كحزمة متكاملة من الهبات، والقروض الميسرة.
وبعكس خطط المساعدات الأوروبية السابقة، تهدف الإجراءات المرتقبة إلى إعادة هيكلة اقتصاد إسبانيا ككل، وليس إقالته من عثرته، برفع معدلات النمو لبضع سنوات مقبلة فحسب.
تناولت صحيفة «فاينانشال تايمز» الوضع الاقتصادى الراهن فى إسبانيا، وبنود خطة الإنعاش المنتظرة، والتحديات التى تواجه الحكومة، وموقف المفوضية الأوروبية إزاء احتمالات التعثر لدواع سياسية أو اجتماعية.
وخصص الصحفيان بن هول ودانيل دومبي، مساحة لا بأس بها من تقريرهما المطول، لإيضاح طبيعة التغييرات الجذرية المتوقعة، ودواعى الاختلاف وأوجه الشبه مع برنامج مناظر، تستعد إيطاليا لتنفيذه أيضا.
ويستند التقرير إلى مقابلات مع المسئولين المعنيين بتطبيق البرنامج، والناقدين له، بهدف وضع الصورة بكاملها أمام القارئ، فيخرج بتقييمه الخاص وتبقى الصحيفة على حيادها دون تهوين أو تهويل. وتستعرض السطور التالية أبرز ما جاء فى هذا التقرير:
فلسفة البرنامج الأوروبي
أعدت المفوضية الأوروبية برنامجا شاملا لإنعاش اقتصادات الدول الأعضاء، وبخاصة دول جنوب القارة الأدنى حظى بالنمو الاقتصادي، والأكثر تضررا بإجراءات الإغلاق الشامل، التى أملتها جائحة كورونا منذ بداية عام 2020. وتتصدر هذه المجموعة: إسبانيا، وإيطاليا، واليونان، والبرتغال.
وخصصت المفوضية 800 مليار يورو لهذا الهدف، تضخ تدريجيا فى خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، وفقا لخطط تقرها المفوضية سلفا بالاتفاق مع حكومات الدول المعنية كل على حدة. ويرى مسئولو المفوضية أن المزايا الكبرى لهذا البرنامج، ستظهر على الأجل البعيد نظرا لتركزها على مفهوم الإصلاح الاقتصادى الشامل، وليس الاستثمارات الوقتية المحددة الغرض فحسب.
ولم يخف بعض المسئولين تخوفهم إزاء فرص النجاح، بل واعتبروا البرنامج «مقامرة شجاعة» لتحديث اقتصاد القارة العجوز، وتعميق التكامل فيما بين دولها. ولكنه التحدى الأكبر على الإطلاق الذى تواجهه أوروبا حاليا، أخذا فى الاعتبار برامج إنعاش أكثر طموحا تطبقها الولايات المتحدة والصين بكل قوة.
كورونا والاقتصاد الإسباني
ألحقت جائحة كورونا أضرارا جسيمة بالاقتصاد الإسباني، عكسها انكماش الناتج المحلى الإجمالى للبلاد بنسبة 11% فى العام الماضي، وهو رقم كبير بالمعايير الأوروبية السائدة. وانطوى ذلك على خسارة عشرات الآلاف من الوظائف فى شتى القطاعات.
ووصفت ماريا خيسوس مونتيرو وزير الموازنة بالحكومة هذا الوضع، بأنه نوع من الدوار أو الاختلال فى التوازن، مما يتطلب سرعة تنفيذ خطة الانعاش للتغلب عليه. وقالت إن تخصيص الاعتمادات الأوروبية فى أقرب فرصة، سيضمن تحولا شاملا فى الاقتصاد الإسباني، بإعادة هيكلة قطاعاته الرئيسة وهو الهدف الأسمى لحكومتها.
ومن المتوقع إقرار الاعتمادات الأوروبية المنشودة قبل نهاية العام الحالي، ولن يبدأ إنفاق هذه الموارد قبل الربع الأول من العام المقبل. وتسعى الحكومة الاشتراكية الحالية برئاسة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إلى الشروع فى برنامج الإصلاح بأسرع وقت ممكن، للبدء فى حصاد جانب من نتائجه الإيجابية القصيرة الأجل قبل الانتخابات العامة المقرر إجراؤها فى عام 2023.
وفى هذا الإطار الترويجي، ظهر سانشيز بصحبة الملك فيليبى السادس، فى زيارة تفقدية لأكبر مصانع السيارات الإسبانية، الواقع بالقرب من برشلونة. وتعتزم إسبانيا البدء فى إنتاج السيارات الكهربائية على نطاق تجاري، وهو ما يضمن تحديث هذا القطاع الصناعى عالى التوظيف، بالاستفادة من الموارد الأوروبية السخية.
الخطوط العريضة للخطة
خصصت المفوضية الأوروبية 140 مليار يورو لتمويل برنامج الإنعاش الإسبانى بمفرده. وسوف يخصص نصف هذا المبلغ فى صورة منح وهبات لاترد، والنصف الآخر فى شكل قروض ميسرة، يسمح لمدريد بالتعاقد عليها فى بحر العامين المقبلين. وتعتزم حكومة سانشيز إنفاق نسبة 77% تقريبا من جملة الهبات، فى خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، بهدف إعادة تدوير عجلة الاقتصاد بأقل أعباء ممكنة على موازنة الدولة.
وبطبيعة الحال، يندرج تطوير مجمع السيارات الكبير على رأس المشروعات المستهدفة بالهبات بكلفة مبدئية قدرها ثلاثة مليارات يورو.
وكانت الحكومة قد أعدت 110 مشروعات استثمارية جاهزة للتمويل الأوروبى فى عدة قطاعات منها: تكنولوجيا الاقتصاد الأخضر، والرقمنة، والتعليم، والتدريب.
ومن أبرز المشروعات: إنتاج الطاقة الجديدة والمتجددة باستثمارات تقديرية تصل إلى ٤،٥ مليار يورو، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة فى المبانى بكلفة قدرها سبعة مليارات، و٣،٥ مليار أخرى لمساعدة نحو مليون مشروع صغير ومتوسط، على تسويق منتجاتها عبر الإنترنت (الرقمنة).
ومن المتوقع أن تساعد هذه المشروعات على خلق 800 ألف فرصة عمل جديدة، فى خلال الأعوام الثلاثة المقبلة.
وبالتزامن مع تنفيذ هذه المشروعات الطموح، أعدت الحكومة الإسبانية برنامجا موازيا للإصلاح الاقتصادي، يضم 102 بنود وهى ما تضع المفوضية الأوروبية أعينها عليه، بهدف إعادة تحديث الاقتصاد المحلى كليا، بما يرفعه إلى مصاف اقتصادات دول شمال ووسط القارة الأكثر ثراء فى نهاية المطاف.
وتنصب بنود هذه الخطة على مجالات أسواق العمل، والإصلاح الضريبي، والمعاشات بصفة رئيسة. ومن المتوقع أن ترفع هذه الخطة معدلات النمو بما يتراوح بين 8% و10% سنويا فى خلال فترة 20 عاما المقبلة.
التحديات الكبرى
تصف ماريا خيسوس مونتيرو وزير الموازنة، برنامج الإصلاح الاقتصادى الشامل، بأنه أضخم خطة اقتصادية تعتمدها إسبانيا فى تاريخها الحديث، من جهتى الموارد والقطاعات المستهدفة بالإصلاح. وبرغم هذا، لا يخفى مسئولون آخرون مخاوفهم، إزاء مخاطر انهيار البرنامج فى مرحلة ما إذا قوبلت بعض إجراءاته بامتعاض شعبي، وبخاصة ما يتعلق منها بنظام المعاشات. (ومازالت المظاهرات الشعبية التى شهدتها اليونان عقب تطبيق برنامجها الإصلاحى قبل عشرة أعوام ماثلة فى الأذهان).
وكانت الحكومة الاشتراكية الإسبانية قد أقرت برنامج الإصلاح، بالاتفاق مع المفوضية الأوروبية دون بلورة إجماع سياسى كاف مع التيارات الأخرى فى البرلمان، أوالتشاور مع الحكومات المحلية فى 17 إقليما بالبلاد.
وتجدر الإشارة فى هذا الصدد، إلى أن الحكومة الائتلافية الإيطالية نجحت فى تأمين هذا التوافق السياسى داخل مجلسها التشريعي، قبل الشروع فى برنامجها، وهو أضخم من جهتى الموارد والقطاعات مقارنة بنظيره الإسباني.
وختاماً يحذر خبراء أوروبيون من عواقب خسارة إسبانيا لفرصة الإصلاح التي تتيحها بروكسل بسخاء يد تحسد عليه. وفى هذه الحالة، ستفقد مدريد الفرصة لإعادة هيكلة تاريخية لاقتصادها فى أوقات بالغة الصعوبة.
– الأهرام-
Discussion about this post