دانية الدوس- “العالم الاقتصادي”
من جارٍ الى جار ومن سوبرماركت الى آخر يجول فراس كل 6 أشهر باحثاً عن “كراتين” وأكياس نايلون كبيرة يوضب بها أغراض بيته ويحزم فيها أمتعته وملابسه وزوجته وأولاده، فلقد حان موعد الاخلاء وان لم يسرع ويجد منزلاً آخر فسيكون الشارع أَولى بهم.
شبح انتهاء العقد أو صوت صاحب المنزل يطلب سعر إضافي للأجرة، باتتا فوبيا تتراءى في منامه كل ليلة فلم يعد نومه نوماً ولا طعامه طعاماً والاحتمال الأغلب لديه هو البحث من البداية عن منزل بديل يستطيع دفع ثمن أجرته.
يقول عمار يوسف وهو خبير في العقارات: ارتفعت أسعار تأجير العقارات في بعض المناطق ضمن مدينة دمشق الى ما يقارب عشرة أضعاف ما كانت عليه سابقاً في حين وصلت إلى ما يقارب 15 ضعفاً في المناطق المحيطة بدمشق راداً سبب تباين أسعار العقارات بين دمشق وخارجها إلى رخص الإيجارات في المناطق الموجودة خارج مدينة دمشق من الأساس.
كل 3 أشهر زيادة
لا أحد كان يخمّن أن تتحول شقته التي ربما لا تتعدى الغرفتين إلى دجاجة تبيض ذهباً لمالكيها، فارتفاع أسعار العقارات الهستيرية المتتالي باستمرار والذي سببته الحرب لم يعد يطفئ جشع المالكين لها، فانتقلوا الى مطالبة المستأجر بدفع بدل عن عام كامل قبل تسليم مفاتيح الشقة، بينما اشترط البعض الآخر التجديد للمؤجر نفسه أو لغيره مع زيادة يفرضها حسب مزاجه على قيمة الإيجار.
يقول أحمد تبدأ معاناتي كمستأجر منذ اللحظة الأولى التي يخبرني فيها المؤجر بفورية إخلاء الشقة لأي سبب كان فقد لاتكون المهلة المحددة كافية لإيجاد منزل آخر، وهنا أبدأ البحث من مكان لآخر عن منزل مناسب فمكان المنزل وعدد غرفه وكسوته وفرشه تلعب دوراً في تحديد سعره ففي دمشق مثلاً لن تجد منزلاً أقل من 75 ليرة، وهذا طبعاً بدون فرش ففي حال وجود الفرش يصل سعره الى 125-150ألف حسب طمع صاحب المنزل، هذا ناهيك عن معاناة نقل أغراضك المنزلية إن وجدت فهي بحاجة الى سيارة نقل وقد يتعرض العديد منها إلى الكسر والتلف أثناء التحميل والتفريغ.
40 ألف شقة مؤجرة في دمشق
“من تم ساكت” يجب على سعيد دفع زيادة لا تقل عن 5 آلاف كل 6 أشهر وإلا كان مصيره كغيره من المستأجرين السابقين.. إخلاء المنزل بقوة القانون الذي يلبي استغاثة أبو رامي صاحب الشقة في حال رفض المستأجر الإخلاء يقول سعيد: في كل نقلة عليك أن تتوقع زيادة في الأجرة وعليك دفعها برضى؛ ففي حال امتنعت عن الدفع سيأتي غيرك ليدفع ويكون مصيرك في الشارع، مضيفاً أريد أن أقول للمؤجرين: اتقوا الله فينا فنحن موظفون وعمال ولا طاقة لنا على تحمل أسعاركم الخيالية متسائلاً: ألم يفكر المؤجر أنه قد يكون في مكان المستأجر يوماً ما؟
على هواه، قد يرفع صاحب العقار إيجار المنزل إلى الضعف فجأة وبدون أي مقدمات لهذا السبب أصبح سامي إلى حد اللحظة مستأجراً 6 بيوت في مناطق مختلفة، يضحك بسخرية: ربما الشيء الإيجابي الوحيد الذي يسليني في تنقلي من بيت لآخر هو أنني بت على علم بمكان أغلب المناطق وربما لم يعد هنالك حارة في دمشق وريفها إلا وحفظتها.
يؤكد الخبير في العقارات يوسف عدم وجود إحصائية دقيقة بعدد الشقق المؤجرة في مدينة دمشق لكن يمكن من خلال الرجوع الى عقود الإيجار في البلديات ودوائر الخدمات الفنية الوصول إلى رقم تقريبي مقدر بحدود 40 ألف شقة في الوقت الحالي ضمن دمشق وريفها، وهذا العدد يتساوى مع ما قبل الحرب بسبب أن هنالك العديد من المناطق غير الآمنة والتي يتعذر الوصول إلى إحصائياتها أو المناطق التي خرجت خارج الخدمة العقارية حيث لا يوجد إمكانية للتأجير فيها.
النزوح وغلاء المعيشة
40 ألف ليرة أقل سعر شقة في ريف دمشق يمكن أن يقتصر على غرفة واحدة أي ما يفوق راتب موظف في حين يتجاوز سعر الإيجار في ضاحية قدسيا 100 ألف ليرة ويصل السعر الى 70 ألفاً فما فوق في جديدة عرطوز، ما اضطر أكثر من عائلة على السكن في منزل واحد ليستطيعوا تقاسم دفع الايجار.
السبب الأساسي في ارتفاع الإيجارات كما يره يوسف هو كثرة الطلب على العقار المؤجر نتيجة الأوضاع الأمنية، يقول: انقسم العقار في سورية نتيجة الحرب الى مناطق آمنة ومناطق غير آمنة خارج سيطرة الدولة وليس هنالك معيار واضح وخاصة في بدايات الحرب للمناطق الآمنة وغير الآمنة؛ ففي يوم واحد قد تتحول منطقة من آمنة الى غير آمنة، الأمر الذي يؤدي الى نزوح السكان بشكل فوري من تلك المنطقة الى المناطق الآمنة ويتم الطلب على العقارات للسكن والتأجير ما يرفع الطلب ويؤدي الى ارتفاع الأسعار ملخصاً سبب ارتفاع الايجارات بأمرين قلة العرض واستغلال أصحاب العقارات لحالات النزوح الجماعي الى المناطق الآمنة.
الارتفاع على سبعة مراحل
ما بين 75 الف و150 الف ليرة سورية تبلغ قيمة إيجار منزل داخل مدينة دمشق في منطقة المزة فيلات والمزة أوتستراد والمالكي والشعلان والمزرعة بينما لم تقل أي شقة في منطقة برزة عن 50 ألف لترتفع في منطقة المجتهد إلى 65 ألف ليرة، بينما يبلغ متوسط الإيجار في مناطق العشوائيات بين 25 الفاً و40 ألفاً.
ووفقاً لرأي مراقب اقتصادي فصحيح أن أسعار إيجار المنازل كانت مختلفة بين منطقة وأخرى قبل الحرب بحسب موقع المنزل وإكسائه وفرشه، لكنها لم تكن متفاوتة بهذا الشكل بين منزلين ضمن البناء الواحد في حين لاحظ يوسف ارتفاع أسعار الإيجارات على سبعة مراحل منذ بداية الحرب حتى هذا الوقت.
والسبب برأيه النزوح من المناطق غير الآمنة إضافة إلى غلاء المعيشة نتيجة انخفاض سعر العملة مقابل العملات الأجنبية وخاصة الدولار مؤكداً ثبات أسعار الإيجارات في السنة الماضية نتيجة استقرار سعر الصرف وعودة بعض المناطق إلى الدولة الأمر الذي ساوى العرض مع الطلب.
تبريرات واهية
أصحاب العقارات كان لهم رأي آخر فقد عزوا الارتفاع في أسعار إيجار المنازل إلى عدم استقرار سعر الدولار وارتفاع أسعار مواد البناء، ورسوم الترخيص، وعلى الرغم من إدراكنا لكل الأعذار السابقة إلا أن أعذارهم أقبح من ذنبهم.
وحججهم واهية لا تبرر الأسعار الهستيرية التي تفرض نفسها على سوق العقارات يؤكد خبير اقتصادي آخر عدم وجود آلية معتمدة في رفع أسعار الإيجارات طوال سنوات الحرب بل كانت الزيادة عشوائية ومحكومة بثلاثة أمور أولها مدى ارتفاع تكاليف المعيشة والأسعار نتيجة ارتفاع الدولار، وثانيها حجم النزوح من منطقة لأخرى وثالثها مدى جشع أصحاب العقارات وتحولهم الى تجار أزمة.
واشار الخبير إلى أنه لاشك في أن لارتفاع سعر صرف الدولار الأثر الأكبر في رفع الإيجارات وإن كان الأمر في كثير من الأحيان هو ارتفاع كيفي متعلق بالقاعدة الذهبية في عقود الايجار ألا وهو قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين)، فغالبية المؤجرين وخاصة من يقوم بالإيجار لمدة طويلة قد تتجاوز العام قد يلجأ إلى حساب بدل الإيجار على أساس سعر الدولار بعد سنة من تاريخ يوم التأجير فيضع السعر الذي يرغبه بحجة أنه سيكون هنالك سعر اخر للدولار بعد سنة، وهذا الأمر جعل أسعار الإيجارات تقفز إلى أسعار خيالية في بعض الأحيان خوفا من انهيار العملة السورية كما كان البعض يتوقع فكان الدولار هو العامل شبه الأساسي في التسعير وبالتالي بارتفاع الإيجارات.
لا أمل حالياً بانخفاض الأسعار
ومع ارتفاع سعر إيجار العقارات يوماً بعد آخر هل سيأتي يوم وتعود لتنخفض تدريجياً أم أنها ستزداد ألسنة لهيب أسعارها أكثر فأكثر يؤكد يوسف لا يمكن حل مشكلة الارتفاع في الإيجارات طالما أن هنالك خلل بين العرض والطلب ولحل هذه المشكلة لابد من زيادة العرض عن الطلب، الأمر الذي يؤدي الى انخفاض الأسعار وهذا غير ممكن خاصة في الظروف الحالية لأسباب كثيرة، منها حجم الدمار الحاصل في الوحدات السكنية في سورية؛ حيث وصل حجم الدمار الى ما يزيد عن مليونين وخمسمائة ألف وحدة سكنية منها مدمر بالكامل ومنها مدمر بشكل جزئي ومنها تضررت البنى التحتية فيه، إضافة الى غياب أي رؤية واضحة لدى الحكومة لحل هذه المشكلة وخاصة أنه لدينا مشاكل إسكانية يزيد عمرها عن 40 عاماً في سورية نتيجة عدم اضطلاعها بدورها المأمول والمرنجى في تأمين السكن للمواطن بالشكل الأمثل، ناهيك بغياب ثقافة الإيجار في الاقتصاد العقاري السوري حيث كان الهدف وما يزال بالنسبة للعقار هو الائتمان والاستثمار في الكتلة النقدية العقارية ولم يكن السكن هو الهدف من إنجاز العقارات فلا يوجد في سورية عقارات مخصصة للتأجير كما في أي دولة من دول العالم.
مشروع إسكان قومي
أحياناً قد يكون للقطاع الخاص ورجال الأعمال دور في مساعدة القطاع العام فما هو دورهم في المرحلة الحالية وهل يمكن تحويل الكتلة المالية من خسارة للمستأجر الى التزام مالي كقسط لمشروع سكني مثلاً؟
يرى يوسف أنه لا يمكن العمل على تحويل الكتلة المالية إلا ضمن رؤية حكومية واسعة فليس هنالك قدرة لأي جهة أن تقوم بهذا الأمر منفردة ونعني أشخاصاً أو شركات لسبب مهم أن الكتلة الأساسية من الأراضي الصالحة للبناء تحتكرها الحكومة سواء بالنسبة للأراضي المستملكة أو لإنجاز مخططات تنظيمية جديدة وهو أمر ظل غائباً عن الحكومات المتعاقبة لمدة تزيد عن أربعين عاماً، وهذا هو السبب الأساسي في اختلال العرض والطلب وظهور العشوائيات كقاعدة في العقار في سورية بدلاً من أن تكون العشوائيات هي الاستثناء.
وأضاف: لابد من التأكيد أنه وضمن الرؤية الحالية للحكومة لا يمكن لأي فرد في القطاع الخاص أو الشركات الخاصة القيام بهذه المشاريع التي قد تؤدي إلى تأمين العقار لسكن المواطن والحل الوحيد بيد الحكومة من خلال ما يسمى بمشروع إسكان قومي يكون الهدف منه تأمين السكن للمواطنين.
ويمكن تعاون القطاع الخاص في هذا الأمر وتخصيص نسبة من العقارات المنجزة ضمن هذه الرؤية والمنظومة للتأجير فقد وإخراجها من سوق المضاربة العقارية ولمشروع الإسكان القومي قواعد وأصول وإجراءات محددة أولها دمج كافة الجهات ذات العلاقة بجهة واحدة تابعة لرئاسة الجمهورية وفي هذه الأيام ونتيجة الحرب والدمار يمكن أن تكون (هيئة عليا لإعادة الاعمار) لكن لابد أن نبدأ بالخطوة الأولى التي تأخرت كثيراً.
Discussion about this post