العالم الاقتصادي- رصد
نشر موقع «ڤوكس» الأمريكي تقريرًا أعدَّته نيكول ناريا، مراسلة شؤون الهجرة، سلَّطت فيه الضوء على أزمة نقص العمالة التي تواجهها الشركات في الولايات المتحدة، مؤكدةً أن الحل لهذه الأزمة يكمن في الاستعانة بمزيد من العمال الأجانب، في ظل حاجة أمريكا إلى عشرة ملايين شخص تقريبًا لشغل الوظائف الشاغرة على مستوى البلاد، بينما تُقدَّر أعداد الباحثين عن وظائف من الأمريكيين 8,4 ملايين فحسب.
مستوى تاريخي للوظائف الشاغرة في أمريكا!
في مطلع التقرير، تُشير المراسلة إلى أن الأمريكيين لم يعودوا إلى عملهم، خاصةً في القطاعات ذات الأجور المنخفضة، على الرغم من أن الوظائف الشاغرة وصلت إلى مستويات تاريخية في يوليو (تموز) الماضي، وانتهت إعانات البطالة الممتدة في سبتمبر (أيلول). وفي الوقت نفسه، يستقيل الأمريكيون من وظائفهم بمعدلاتٍ قياسية.
ويُوضح التقرير أن غريزة إغلاق الحدود تزداد عندما يكون الاقتصاد هشًّا، وذلك من أجل حماية العمال الأمريكيين. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة خلال جائحة كوفيد-19 بالفعل، إذ أوقفت الهجرة القانونية عمليًّا وأغلقت الحدود الجنوبية أمام المهاجرين وطالبي اللجوء وكانت الولايات المتحدة ترحب كل عام بحوالي مليون مهاجرٍ، يشارك ثلاثة أرباعهم تقريبًا في القوى العاملة لكن هذا الرقم انخفض في عام 2020 إلى حوالي 263 ألفًا.
وأظهرت الأبحاث الاقتصادية أن قدوم أجانب لشَغْل الوظائف ذات الأجور المنخفضة كان له تأثير سلبي طفيف على أجور العمال المولودين في أمريكا أو فرصهم. وفي ظل الظروف الراهنة، يمكن أن يؤدي استقبال مزيد من العمال الأجانب ذوي الأجور المنخفضة إلى حل أزمة النقص الحاد في العمالة في بعض القطاعات، مما يساعد أشد المناطق تضررًا في البلاد على التعافي مع تجنب ارتفاع معدلات التضخم.
ورصد التقرير أربعة قطاعات تواجه نقصًا حادًّا في العمالة وهي (البناء والنقل والتخزين والإعاشة والضيافة ومحلات الخدمات الشخصية، مثل الصالونات والتنظيف الجاف وخدمات التصليح ومُتعهدي دفن الموتى). وأفاد مركز «نيو أمريكان إيكونوميكس» المؤيد للهجرة أن هذه الصناعات شهدت زيادةً في معدل الوظائف الشاغرة بأكثر من 65% في عام 2021 موازنةً بالمدة الزمنية نفسها لعام 2019، ويُشكل المهاجرون 20% من القوة العاملة في هذه الصناعات.
وفي هذا الصدد، يقول توني رادير، نائب أول لرئيس شركة «ناشيونال روفينج بارتنرز»، إن: «شركة المقاولات الخاصة به، التي توفر خدمات صيانة الأسقف وترميمها من خلال 200 موقع على مستوى أمريكا، هي إحدى الشركات التي تكافح لتوظيف عدد كافٍ من العمال لتلبية الطلبات المرتفعة». مضيفًا أن: «حجم العمل الذي يتعين القيام به حاليًا لا يمكن تصديقه».
الجانب الإيجابي والسلبي للأزمة!
يلفت التقرير إلى أنه في حالة عدم وجود عمال أمريكيين، تُوظف الشركة عمال مهاجرين بتأشيرة H-2 للعمل المؤقت. ولذلك، يُشكل المهاجرون 29% من القوة العاملة لدى كثير من أرباب العمل في صناعة التسقيف، وتوجد وظائف شاغرة بأعداد تفوق أعداد الباحثين عن عمل. ويؤكد رادير أن شركته «ستدعم توسيع برنامج تأشيرة H-2» آملًا أن تُتاح الفرصة للشركات «للعمل مع إدارة بايدن لمعالجة هذا الأمر بطريقة إيجابية».
وفي السياق ذاته أوضح جيريمي روبينز، المدير التنفيذي لمركز «نيو أمريكان إيكونوميكس»، أن: «الجانب الإيجابي من أزمة نقص العمالة يتمثل في ارتفاع الأجور، وهو جيد للموظفين الأمريكيين لكن الجانب السلبي يكمن في أنه إذا لم تتمكن من جلب العمالة لشغل الوظائف الشاغرة، فلن تستطيع تسيير نشاطك التجاري».
وفي الوقت الذي يرى فيه عديد من الذين عملوا في وظائف منخفضة الأجر قبل الجائحة أن وفرة خيارات التوظيف تُعد تحسنًا في الظروف، يخشى خبراء الاقتصاد أن يكون نقص العمالة حادًّا جدًّا لدرجة أنه يُهدِّد النمو الاقتصادي عمومًا وربما يُؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم.
وصحيحٌ أن الحكومة الأمريكية لا يمكنها إجبار الناس على العمل، لكن يمكنها أن تسهِّل الأمور للمهاجرين لشغل الوظائف الشاغرة وتجنب الأزمات الاقتصادية مع محاولة الولايات المتحدة الخروج من الكساد الناجم عن الجائحة.
مسألة استقدام العمال الأجانب
يُنوِّه التقرير إلى أن التعافي الاقتصادي من الجائحة كان متفاوتًا، على مختلف مستويات الدخل بالتأكيد، وجغرافيًّا كذلك. وتضررت بعض المناطق المنعزلة التي تعتمد على السياحة. وتعافت أجزاء أخرى من البلاد بصورة أبطأ بسبب أن بعض الأشخاص لا يستطيعون الانتقال من المناطق، التي تمتد جذورهم فيها وهي منعدمة الوظائف، إلى مناطق تنتشر فيها لافتات «مطلوب موظف». وسوف يساعد جلب مزيد من العمال الأجانب في حل المشكلتين.
ويُؤكد التقرير أن العمال ذوي الأجور المنخفضة مهمون جدًّا لضمان عودة تلك المناطق إلى طبيعتها. وأفاد تحليل أجراه معهد «بروكينجز»، أن العمال ذوي الأجور المنخفضة يشكلون ما بين 30% و62% من الوظائف في حوالي 400 منطقة حضرية على مستوى أمريكا، وهم العمود الفقري لأعمال «الشوارع الرئيسة» التي تجعل الأحياء أماكن تصلح للحياة والعمل. ودائمًا لا يرغب الأمريكيون في شغل هذه الوظائف، فانتهز المهاجرون الفرصة لملء ذلك الفراغ، خاصةً في القطاعات التي تعاني من زيادة الوظائف الشاغرة مع تفشي الجائحة.
ويستشهد التقرير بما كتبه أبهيجيت بانيرجي وإستير دوفلو، الاقتصاديان الحائزان على جائزة نوبل من معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا، في كتابهما «اقتصاديات جيدة للأوقات الصعبة»، أن المهاجرين ذوي قدرة عالية على التنقل وعلى استعداد للذهاب إلى أي مكان تتوفر فيه فرصة عمل. ويوضح بانيرجي أن: «أمريكا يمكنها أن تُشجع هذه الاتجاهات من خلال تقديم حوافز اقتصادية، مثل «منحة انتقالية» صغيرة لمرة واحدة للمهاجرين إذا استقروا في مناطق تعاني من نقص العمالة لكنه استدرك أن هذا مجرد حل قصير الأجل، مشددًا على ضرورة أن يقترن هذا بمساعدة العمال الموجودين بالفعل ويعانون من البطالة والتعافي الاقتصادي المتفاوت من تداعيات الجائحة.
وألمح التقرير إلى أن القطاعات الماهرة، بدايةً من الرعاية الصحية ووصولًا إلى التكنولوجيا، عانت كثيرًا من نقص العمالة، ما أدَّى إلى كبح النمو الاقتصادي والإبداع. ويحظى العمال الأجانب في تلك القطاعات بإمكانية الحصول على فرص الأمريكيين أكثر من الوظائف ذات الأجور المنخفضة؛ لأنهم متخصصون جدًّا في المجالات التي تتطلب مهارة فائقة. وخلال الجائحة، استمر الطلب على العمال المهرة بلا هوادة، ووجد تقرير صادر عن «نيو أمريكان إيكونوميكس» أن أرباب العمل بحثوا عن عمال أجانب في مجالات الكمبيوتر والرياضيات بمعدل أعلى قليلًا من المعتاد.
وفي نهاية المطاف، سيسفر جلب مزيدٍ من العمال الأجانب إلى الولايات المتحدة عن إيجاد حلٍ لمشكلة نقص العمالة التي لم يتمكن الأمريكيون من حلها وحدهم، كما سيؤدي إلى تسريع مسار التعافي الاقتصادي للبلاد. ولا يمنع تحقيق هذا كله سوى سياسة الولايات المتحدة.
كيف تجلب أمريكا عمالًا أجانب؟
يلقي التقرير الضوء على بعض برامج التأشيرات التي تُساعد على استقدام العمال ذوي الأجور المنخفضة مثل برنامج تأشيرة H-2، والذي يسمح لأصحاب العمل بتوظيف عمال موسميين في قطاعات مثل السياحة وصيد الأسماك. ويبلغ الحد الأقصى للبرنامج 66 ألف عامل أجنبي مؤقت سنويًّا، ويمكن لوزارة الأمن الداخلي زيادة هذا الحد بـ64 ألف تأشيرة إضافية سنويًّا دون الحاجة لأي إجراء من الكونجرس.
بيد أن البرنامج يواجه بعض القيود، إذ بينما يساعد هذا البرنامج الشركات على تلبية حاجتهم خلال أوقات الذروة، تتطلب قطاعات عديدة تعاني من النقص نفسه مزيدًا من العمال على مدار العام. وبينما يمنح البرنامج المهاجرين وسيلة للعمل في أمريكا بصورة قانونية مؤقتًا، فإنه لا يتيح لهم كثيرًا من الضمانات للبقاء في البلاد طويلًا. وهذا هو سبب أهمية استخدام الولايات المتحدة للحد الأقصى من عدد البطاقات الخضراء التي يمكنها إصدارها سنويًّا، وسبب وجوب تفكير الكونجرس في زيادة هذه الأرقام. وفي عام 2021، فشلت الولايات المتحدة في إصدار حوالي 80 ألف بطاقة خضراء بسبب بطء الإجراءات.
ويستدل التقرير بما قاله ديباك بهارجافا، مؤلف كتاب «مسائل الهجرة: الحركات والرؤى والإستراتيجيات لمستقبل تقدمي»، الذي أفاد: «أميل إلى التشكك الشديد في الحجة القائلة إن سياسة الهجرة يجب أن تستند أساسًا إلى المهارات، وأعتقد أن الفوائد ستتحقق على جميع المستويات. ويجب أن نفتح جميع قنوات الهجرة الأربع، الإنسانية والاقتصادية والعائلية والتنوع، وسوف نحصد ثمارها».
ويشدد التقرير على ضرورة تخلي إدارة بايدن عن السياسات التقييدية التي وضعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بالإضافة إلى إزالة العوائق البيروقراطية، ومنها إلغاء سياسة الحدود وزيادة قدرة الولايات المتحدة على إعادة التوطين. ويجب على الإدارة الأمريكية إعادة فتح القنصليات التي ظلت مغلقة أو مفتوحة بخدمات محدودة بسبب الجائحة لضمان إمكانية إجراء مقابلات مع المهاجرين ومعالجة طلباتهم في الوقت المناسب.
وتختتم المراسلة تقريرها بالتأكيد على أن هناك حدودًا لما يمكن أن تفعله إدارة بايدن لزيادة قدرة أمريكا على استقبال المهاجرين، وربما يتطلب الأمر اتخاذ إجراء من الكونجرس لرفع مستويات الهجرة. ويؤكد بهارجافا أن: «المطلوب حقًّا هو إعادة كتابة قوانين الهجرة في البلاد التي تحدد مستهدفًا أكبر بكثير من الحالات المقبولة من الفئات جميعها وربما تضيف فئةً خامسةً للمهاجرين بسبب المناخ. ويتطلب هذا توافقًا جديدًا للآراء السياسية».
– ساسة بوست-
Discussion about this post