العالم الاقتصادي- قسم الدراسات
تسعى الهند بمساحتها الكبيرة(287ر3 مليون كم مربع) وعدد سكانها البالغ (366ر1 مليار نسمة) وموقعها الفريد في جنوب شرق آسيا لتعزيز مكانها كقوة رئيسية مؤثرة في تشكيل النظام العالمي وصياغة قواعده، وتطمح إلى بلورة نظام عالمي متعدد الأقطاب، على مستوى الهيكل والمؤسسات على السواء، بحيث تكون هي أحد أقطابه بالطبع.. فهل ثمة إمكانية لأن يتعزز حضورها كقوة إقليمية رئيسية في إقليم آسيا- الباسيفيك؟ وهل بالإمكان أن يُسمح بأن تحظى بموقع القوى العالمية الكبرى؟
هل الصعود الهندي قادر على الاستدامة؟
بات صعود الهند في الاقتصاد العالمي يحل تدريجياً محل صورتها التقليدية كبلد يتميز بالانقسام الطبقي الحاد، واتساع نطاق الفقر الشعبي، وغالباً ما يؤرخ لبداية الصعود الهندي المعاصر المرتكز أساساً على البعد الاقتصادي بعام 1991، وهو العام الذي شهد بداية التحول الهندي نحو الانفتاح والاندماج في الاقتصاد العالمي، فبعد الأزمة المالية عام 1991 اعتمدت الهند على نحو متزايد مبادئ السوق الحرة وتحرير اقتصادها وتعزيز انخراطها في التجارة الدولية، ورافق ذلك اهتمام قوي وواسع النطاق بتطوير البنية التحتية القومية، ومنها مشروع إنشاء شبكة من الطرق السريعة لربط المراكز الصناعية والزراعية والثقافية الرئيسية على مستوى البلاد، وسُمي هذا المشروع “الرباعي الذهبي” واكتمل تنفيذه عام 2012، وأفضت هذه الخطوات إلى تسارع معدلات النمو الاقتصادي في البلاد، حيث أخذت ترتفع من القاع الذي بلغته عام 1991عند معدل 057ر1 % لتصل إلى 846ر1 % عام 1999 وفقاً لإحصاءات البنك الدولي، وظل معدل النمو في الهند يتراوح بين 7 % و8 % مع قدرة عالية وملحوظة على التعافي من آثار أي أزمات اقتصادية نابعة من السياقين الإقليمي والعالمي.
نتيجة لذلك ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من نحو 7ر316 مليار دولار في عام 1990 إلى نحو 1ر462 مليار دولار عام 2000، قبل أن يتضاعف ويصل إلى نحو 6ر2 تريليون دولار عام 2017، لتصبح الهند بذلك سادس أكبر الاقتصادات العالمية في عام 2018، بينما تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنها ستتجاوز الاقتصاد البريطاني لتحتل المركز الخامس عالمياً عام 2019، وأظهرت بيانات البنك الدولي أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من نحو 394 دولاراً عام 1990 إلى نحو 61ر1939 دولاراً عام 2017، ومع ذلك تبقى هذه الحصة منخفضة قياساً إلى المتوسط العالمي الذي بلغ عشرة آلاف و748 دولاراً عام 2017.
إن قصة الهند خلال العقود الثلاثة الماضية تمثل إنموذجاً صريحاً لصعود قوة اقتصادية هائلة، لكن تقييم هذا الصعود يقتضي توضيح ما يلي:
1- ركائز الصعود الهندي منذ التسعينيات:
تتمثل أبرزها في تحول متسارع من نمط زراعي تقليدي إلى اقتصاد صناعي خدمي متطور نسبياً، وقد كشفت بيانات البنك الدولي أن قطاع الخدمات الهندي هو الأسرع نمواً على مستوى العالم، ويسهم بنحو 60 % من حجم الاقتصاد الهندي، ويستوعب نحو 28 % من القوة العاملة الهندية، وبلغ إسهام قطاعي الصناعة والتشييد في الناتج المحلي الهندي نحو 1ر31 % من الناتج المحلي الإجمالي، ومنذ عام 2010 بدأ نصيب هذين القطاعين في الناتج المحلي الإجمالي في الهند يتراجع ليقترب من المعدل العالمي، وبلغ هذا الإسهام نحو 5ر26 % عام 2017، وتوفر الحكومة الهندية دعماً قوياً لقطاع الصناعة خاصة في ظل برنامج “صُنع في الهند” الذي أطلقه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عام 2014 والذي يهدف إلى جعل قطاع الصناعة الهندي أكبر مستقبل للاستثمارات الخارجية المباشرة في العالم متجاوزاً كلاً من الولايات المتحدة والصين، ويمكننا القول: إن ما يميز قوة صعود الهند حقيقة أن نمو اقتصادها يعتمد على معدلات ادخار قومي مرتفعة، ونهوض بمستوى القدرات البشرية المتنوعة، وتعزيز مكانة الطبقة الوسطى مقابل اعتماد محدود نسبياً على الصادرات.
2- القدرة على إدارة الصعود:
هناك جملة من العوامل التي تحدد مدى قدرة الاقتصاد الهندي على الاستدامة وهي: قدرة القيادة في تزايد القوة الاقتصادية الهندية، وارتباط النمو الاقتصادي بمكانة الهند العالمية، والصعود الصيني، والعامل الديموغرافي، والتعلم النخبوي وتنمية الكوادر البشرية، ودور المهاجرين الهنود في التنمية، والتقارب مع الغرب وقيم العولمة.
ارتباط الهند بالاقتصاد المعولم
بدأت الهند بالتحول نحو محاولة الانخراط في العولمة بعد عام 1985، واتسعت هذه المحاولات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في فترة التسعينيات، وباشرت الهند تحركات عدة لتعزيز قوتها وحضورها الدوليين، ويمكننا رصد أبرز هذه التحركات اقتصادياً في ثلاثة مجالات:
1- تعزيز مكانة الهند في منظومة صنع القرار الاقتصادي العالمي:
عززت الهند مشاركتها وانخراطها في الكثير من المنظمات والتكتلات العالمية، وخاصة الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين، وحركة عدم الانحياز، ومجموعة العشرين، ومجموعة الـ77، ومجموعة الـ15، والمنتدى الإقليمي الآسيوي ARF ورابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي NAARC، وتسعى الهند للحفاظ على توازن حرج بين علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة وسعيها كي تحوز حرية أكبر في حركتها الدولية، أي إنها تسعى للحفاظ على شراكتها مع الأمريكيين من دون أن تبقى أسيرة تلك العلاقة بشكل كامل، ويأتي في هذا السياق انضمام الهند إلى مجموعة “بريكس”، في السياق ذاته ركزت الهند اهتمامها على جنوب شرق آسيا، وتبنت سياسة النظر شرقاً LOOK EAST POLICY بعد تعزيز العلاقات مع دول جنوب وجنوب شرق آسيا، والتي كانت مهملة سابقاً كمقوم إستراتيجي في خطط الهند التنموية.
2- التجارة الخارجية:
تضاعف حجم التجارة الخارجية للهند نحو سبع مرات ونصف المرة خلال أقل من 20 عاماً، من نحو 5ر86 مليار دولار في عام 1999 إلى نحو 1ر660 مليار دولار في عام 2017، كما أسهمت التجارة الخارجية بنحو 8ر48 % من الناتج المحلي الإجمالي للهند في عام 2015 مقابل ما يتراوح بين 11 و13 % مطلع تسعينيات القرن العشرين.
3- الاستثمار الاجنبي المباشر:
وفقاً لتقرير الاستثمار العالمي الصادر عن الأونكتاد فقد بلغت قيمة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل إلى الهند 4ر34 مليار دولار عام 2014 بنسبة نمو 1ر22 % مقارنة بـ2ر28 مليار دولار في عام 2013، ووصل الرقم إلى 4ر44 مليار دولار عام 2016 لتحرز الهند المرتبة التاسعة بين أكثر دول العالم جذباً للاستثمار الخارجي المباشر بعد كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين وهولندا وإيرلندا والبرازيل وسنغافورة وألمانيا لتحل فرنسا في المركز العاشر.
الصعود الاقتصادي وأولويات السياسة الخارجية للهند
كشفت مراجعة السياسة الخارجية الهندية منذ تولي ناريندرا مودي في أيار 2014 عن تطلعات عالمية تهدف إلى تنويع شركاء الهند، والانخراط في عملية إعادة هيكلة النظام الدولي، وعدم الاكتفاء بعلاقات التحالف مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وتمثلت أهم دوافع مراجعة الهند لعلاقاتها مع الولايات المتحدة فيما يلي:
1– تصاعد أزمة الثقة: تسببت تمسك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشعار “أمريكا أولاً” في إرباك العلاقات مع الهند.
2- التقارب مع روسيا: احتفت الهند بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للهند في تشرين الأول عام 2018 بتوقيع أكثر من /20/ اتفاقية للتعاون العسكري والاقتصادي.
3– تعزيز العلاقات مع إيران: ترى الهند أن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران تشكل فرصة لن تتكرر لتحقيق مكاسب من التعاون الاقتصادي مع إيران، نتيجة لتراجع المنافسة وإحجام دول أخرى عن الانخراط في علاقات اقتصادية مع طهران.
4– سياسة “الهند أولاً”: اتبعت الهند سياسات واقعية مرنة تقوم على تحقيق المصالح، مع التحرر من القيود الأيديولوجية والتزامات التحالفات.
5– حسابات انتخابات 2019: بعد أن تعرضت سياسات “ناريندرا مودي” لانتقادات واسعة بعد تردي أداء الاقتصاد سعت حكومته لتوفير أكثر من /10/ ملايين فرصة عمل وعزز التعاون مع روسيا وإيران وحاول احتواء التصعيد مع الصين وقاوم ضغوط ترامب لخفض الرسوم الجمركية على الصادرات الأمريكية لحماية الصناعة الهندية.
الفرص والتحديات
يتوقع صندوق النقد الدولي أن تصبح أسرع اقتصادات العالم نمواً في عام 2019، على حين يتوقع تقرير أصدره بنك “ستاندرد تشارترد” أن تصبح الهند ثاني أكبر اقتصاد في العالم عام 2030 بعد الصين وأن تكون المحرك الرئيسي للنمو العالمي، حيث يتوقع أن يتسارع نموها إلى 8ر7 % بحلول العقد المقبل، لكن هذا الصعود تحيطه شكوك عميقة ما لم تتم معالجة التحديات التالية:
- معالجة المشكلات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الهندي.
- شبح الإيدز يهدد النمو الاقتصادي للهند والصحة العامة.
- العلاقة مع باكستان والولايات المتحدة والصين كعامل حاسم لجذب الاستثمارات الأجنبية.
- التنافس مع الصين على أشده لتأمين الطاقة.
- معدلات الفقر لا تزال مرتفعة ما يكشف ثغرة كبيرة في النموذج التنموي المعتمد، وهو أمر يشكل تهديداً لاستمرار تجربة الهند التنموية في المستقبل.
Discussion about this post