العالم الاقتصادي – رصد
كانت للعلماء رسالة واضحة في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ الذي عُقد في مدينة غلاسكو في الشهر الماضي، وهي أن الطريقة الوحيدة لتجنب الآثار الكارثية لتغير المناخ هي الانتقال بسرعة من الفحم والنفط والغاز إلى مصادر طاقة أنظف، مثل الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية.
وقد أومأ القادة بالموافقة، ودعا الرئيس الأميركي جو بايدن العالم إلى مضاعفة الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة. وقال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إن بلاده ستولّد نصف طاقتها من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، بينما قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إن التكنولوجيا الخضراء ستساعد بريطانيا على الوصول إلى الحياد الكربوني من خلال توليد الطاقة بحلول عام 2035.
ولكنّ هناك تحديا تم الحديث عنه بعجالة رغم أهميته من ناحية الوفاء بتلك التعهدات الجريئة، فدون سلسلة إمداد تمر عبر تايوان -وهي واحدة من أكثر النقاط الجيوسياسية سخونةً وإثارةً للحيرة في العالم- سيكون التحول السريع إلى الطاقة الخضراء شبه مستحيل.
هناك عنصر أساسي يجب توفره لأنظمة الطاقة المتجددة للتمكن من العمل وهو “أشباه الموصلات”، وهي مصنوعة من عناصر نقية مثل السيليكون أو الجرمانيوم، وتسهّل تسخير وتحويل ونقل الطاقة المتجددة إلى شبكات الطاقة، ودون هذه الرقائق الحيوية تكون كفاءة التقنيات الخضراء محدودة وتقل قيمتها، ويمكن القول بكل بساطة إن الوعد بمستقبل أكثر اخضرارًا توفره الطاقة المتجددة يعتمد على أشباه الموصلات عالية الجودة.
وهو ما يقودنا إلى الحديث عن تايوان، الدولة الرائدة عالميًا في مجال تصنيع هذه الرقائق الأساسية والموجودة في كل شيء من الهواتف الذكية إلى آلات تحميص الخبز الذكية.
وفي العام الماضي استحوذ سوق السبائك التايواني -وهو الموقع الذي يستعان به لتصنيع أشباه الموصلات- على أكثر من 60 في المئة من إجمالي إيرادات السبائك العالمية، مع نسبة 50 في المئة فازت بها شركة واحدة فقط، وهي شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات. ولفهم حجم سيطرة تايوان على هذا القطاع علينا تذكر ما حدث هذا الربيع لصناعة السيارات عندما ارتفع الطلب العالمي على الإلكترونيات وتناقصت إمدادات أشباه الموصلات، حيث تُركت حوالي 1.3 مليون مركبة عالقة على خط التجميع.
وفيما استأثرت شركات صناعة السيارات بعناوين الصحف أثناء تلك الأزمة تضرر قطاع الطاقة المتجددة بشدة، وخاصة مصنعي الألواح الشمسية وتوربينات الرياح؛ على سبيل المثال في شهر فبراير أفادت شركة الطاقة الشمسية العملاقة “إنفيز إنرجي” التي تقع في الولايات المتحدة بـ”أن ضُعف إمدادات أشباه الموصلات عالميا قد أضر بإنتاجها في جميع أنحاء العالم”.
ونظرًا إلى أهمية أشباه الموصلات في حلول الطاقة النظيفة والدور الكبير الذي تلعبه تايوان في صناعة الرقائق كان يفترض أن يجلس مسؤولو تايوان إلى طاولة النقاش في قمة المناخ التي انعقدت في غلاسكو، لكن لم يحصل ذلك. وتايوان التي تعتبرها الصين مقاطعة منشقة ليست جزءًا من منظومة الأمم المتحدة التي استضافت محادثات المناخ في قمة المناخ الماضية كوب 26، وقد شارك وفد من عاصمة تايوان تايبيه على هامش الاجتماعات، ولكن لم يكن هناك دور لتايوان في حل أزمة المناخ على جدول الأعمال الرسمي للقمة. ولإنقاذ الكوكب من الاحتباس الحراري الكارثي ينبغي التعجيل بإشراك تايوان في المحادثات.
يعد تسريع التحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة إحدى أكثر الطرق المعتمدة للحد من تهديد التغيرات المناخية، وقد أفادت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة “إيرينا” بأنه لا يزال من الممكن تحقيق أهداف خفض الانبعاثات التي حددتها اتفاقية باريس لعام 2015، ولكن بشرط خفض الاعتماد على الفحم ومصادر الطاقة القذرة الأخرى بشكل حاد في السنوات القليلة المقبلة، وسيتطلب القيام بذلك زيادة كبيرة وفورية في مصادر الطاقة المتجددة، وسيعني ذلك أيضًا تقوية سلاسل التوريد الحالية لأشباه الموصلات مع تطوير سلاسل جديدة.
وقد أظهر النقص في توفير الرقائق هذا الربيع أن سلسلة التوريد التايوانية ليست حلاً يمكن الاعتماد عليه على المدى الطويل. وتتجه الحكومات إلى توسيع قدرات تصنيع الرقائق؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال أعلنت شركة “تي أس أم ٍسي”، جنبًا إلى جنب مع “سامسونغ” و”إنتل”، عن خطط لفتح مصانع جديدة، بينما تخطط شركة “قلوبال فندريز” التي تسيطر عليها أبوظبي -ثالث أكبر مصنع لأشباه الموصلات في العالم- لتوسيع الإنتاج. ورغم ذلك قد يستغرق ظهور هذه السعة الإضافية سنوات، مما يترك مصنعي الطاقة الخضراء معتمدين على سلاسل التوريد الحالية لتلبية طلباتهم.
ولكن حتى خط الإنتاج الحالي واقع تحت ضغوط جمة، حيث شنت الصين هجومًا للحد من تعامل تايوان مع الحكومات الغربية؛ فعندما زارت مجموعة من رجال الأعمال التايوانيين -بمن فيهم مصنعو الرقائق- جمهورية التشيك وسلوفاكيا وليتوانيا في أواخر أكتوبر الماضي حذر دبلوماسيون صينيون من أنه سيتم اتخاذ “الإجراءات الضرورية” ردًا على تلك الزيارة، كما أصدرت الصين اعتراضا مماثلاً بعد أيام عندما سافرت مجموعة من المشرعين الأميركيين إلى تايوان على متن طائرة تابعة للبحرية، وهو استفزاز وصفته الصين بأنه “مُلْتوٍ”.
وفي أوروبا بدأت تلك الضغوط الصينية المستترة تظهر على السطح، حيث توقف دعم اتفاق التجارة الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وتايوان في آخر لحظة، وكان من شأن ذلك الاتفاق تعزيز التعاون في التقنيات الاستراتيجية مثل أشباه الموصلات. وقد اختلف المشرعون في الاتحاد الأوروبي حول كيفية تحقيق التوازن على مستوى الأعمال التجارية مع تايوان وسط صراع متزايد مع الصين، حيث اتهم سياسي ألماني الموالين للصين (ميركيليتي) بإفشال الصفقة.
ولئن كان الرد الصيني على الدبلوماسية التايوانية متوقعا فإن التداعيات وآثار تهميش تايوان على كوكب الأرض ستكون كبيرة. ولإشعال ثورة الطاقة الخضراء على نطاق واسع يحتاج العالم إلى نوع من أشباه الموصلات المتطورة التي تنتجها تايوان، ويجب ألا تركز الحكومات الغربية الجادة بشأن تغير المناخ على استرضاء الصين، بل عليها التركيز على مساعدة مصنعي الرقائق في تايوان على توسيع قدراتهم التصنيعية بالتزامن مع بناء القدرات التصنيعية للحكومات الغربية، ومن خلال العمل مع تايوان وجعل تلك العلاقات التجارية رسمية يمكن للحكومات تأمين سلاسل التوريد وضمان ثقة المصدر الرئيسي ومن ثمة الوفاء بالتزاماته المتعلقة بتغير المناخ.
وقد كانت قمة المناخ في غلاسكو رائعة بفضل تغطيتها نطاقا كبيرا، وقد اجتمع ما يقرب من نحو أربعين ألف سياسي وناشط وممثل أعمال لمدة أسبوعين لوضع مخطط لإنقاذ كوكب الأرض، ولكن لتحويل هذه الوعود إلى أفعال بالسرعة المطلوبة يجب على العالم أن يعمق علاقاته مع دولة في شكل جزيرة صغيرة، وتلك الدولة الصغيرة لم تكن حتى على قائمة المدعوين.
Discussion about this post