بقلم: الدكتور جمعة السهو
تُعد فكرة الإصلاح والتحديث الإداري فكرة شمولية ترتبط بالجهاز الإداري والخطط التنموية الشاملة، وبالرغم من تعدد المعاني والمترادفات التي تدل على الإصلاح الإداري كالتحديث والتطوير؛ إلا أنها تستهدف جميعها إحداث تغيير في الإدارة العامة لكي تتواكب مع المتغيرات والتحديات التي أفرزتها العولمة والمعلوماتية والتكنولوجيا وغيرها من المتغيرات التي طرأت على عالم اليوم في مجالاته المختلفة.
فالإصلاح الإداري هو ظاهرة من ظواهر العلم الإداري، وهي ليست منفصلة عن الإدارة العامة؛ وإنما ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً لكي تحقق تطور مهام الدولة ونشاطاتها، “فكلما تطورت الدولة نمت الإدارة، وظهر الإصلاح الإداري كأحد عوامل تطور الدولة وتقدمها“.
وفي إطار العصر الحالي الذي تحكمه المتغيرات المتسارعة والتحديات الكونيّة التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على جميع المجتمعات، يصبح الإصلاح والتحديث الإداري ضرورة ملحة تواجهها الإدارة العامة في سوريّة بمنظور أشمل بكثير من مجرد البحث عن تقنيات جديدة، وإنما يجب الأخذ بعين الاعتبار تعديل شبكة العلاقات الداخلية والخارجية الخاصة بالإدارة، من حيث الكم والنوعية والاتصال بالمجتمع والتواصل مع المواطن وإعادة الثقة إليه في علاقته مع مؤسسات الدولة، فضلاً عن تغيير العلاقات التسلسلية وإزالة الحواجز وتنمية أسلوب الشراكة، والتعاون في التعامل مع المؤسسات والموظفين.
ومن هنا لابدّ من تحديد استراتيجية متكاملة للإصلاح الإداري تتكون من عدة عوامل يجب اللجوء إليها بطريقة تدريجية أو مرحلية لتحقيق الإصلاح الإداري، وهذه الاستراتيجية المتكاملة يجب أن تأتي بعلاج للمشاكل أو الفجوات والثغرات الموجودة في الهياكل التنظيمية الوظيفية، والتي تتمثل بالآتي:
- عدم فاعلية أداء العاملين وعدم القدرة على إنجاز الأعمال حسب الاحتياجات المطلوبة.
- بدائية سياسات التدريب بالنسبة للاحتياجات الحالية، أو عدم وجودها، أو عدم تفعيلها، أو عدم رصدها للاحتياجات المستقبلية.
- عدم تجهيز كادر إداري من الصف الثاني لتعويض الصف الأول في المستقبل القريب.
- عدم وجود خطة تدريبية طويلة الأجل تراعي برامج التدريب المقترحة، وتوفير المهارات اللازمة للعاملين على اختلاف وظائفهم وفئاتهم، لتحقيق مواصفات “الموظف الفعّال“.
- ضعف وإهمال تقييم أداء العاملين لمهامهم، وإدخال الأهواء الشخصية والمحسوبيات في عملية التقييم.
ويعرّف الإصلاح الإداري على أنه “عملية هادفة مخططة ومرسومة، هدفها يتحرك دائماً مما يؤدي إلى تغيير جذري وأصيل في الأشخاص وفي المفاهيم لتشمل كل مقومات الإدارة واستراتيجيتها”.
غالباً ما تلجأ الدول إلى استراتيجية الإصلاح الشامل عندما تواجه أزمات مفاجئة وحادة
وسنركز في هذه الدراسة على استراتيجيات الإصلاح الإداري التي تتباين من حيث شمولها والأمور التي تركز عليها والمستوى الذي تتم عليه، ويعود ذلك إلى ارتباط الإصلاح الإداري بمختلف العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وتختلف الدول في المؤسسات التي تدير عمليات الإصلاح الإداري، وفي الموارد التي توفرها لهذه العملية، ويمكن تلخيص أهم الاستراتيجيات في مجال الإصلاح الإداري على النحو الآتي:
أولاً- استراتيجية الإصلاح الجزئي
وفقاً لهذه الاستراتيجية توجه الجهود إلى عدد قليل من العناصر وعدد محدود من المؤسسات أو الادارات، ويضم هذا التصنيف ثلاث مجموعات حسب موقعها من مستويات الإدارة كمستوى الهيكلية، ومستوى العنصر البشري، ومستوى طرق وأساليب العمل، ومستوى النصوص والأنظمة التشريعية، ومدى شمولها الأحادي أو الكلي للوحدات الإدارية.
ثانياً- استراتيجية الإصلاح الأفقي
تمثل هذه الاستراتيجية جهود الإصلاح الإداري التي تركز على قلة من العناصر المكوّنة للنظام الإداري الكلي، ولكنها تطبق على كل مؤسسات الجهاز الحكومي أو قطاعاته.
ثالثاً- استراتيجية الإصلاح القطاعي
وهنا تتركز الجهود على كل العناصر الهامة المكوّنة للأداء داخل المؤسسات الحكومية المنتقاة، وتقوم هذه الاستراتيجية على تجريب الإصلاح قبل انتشاره وتعميمه، وذلك من خلال تأليف لجنة لاختبار الإصلاحات القطاعية أو الجغرافية قبل تعميمها، وهذا ما أخذت به بعض الوزارات السورية قبل الأزمة مثل “مشروع الحكومة الإلكترونية وأتمتة العمل القضائي الذي طبق في محافظة درعا عام 2010″، لتجريبه ومن ثم تعميمه على باقي المحافظات والإدارات المركزية.
ويفضل أن تقوم الوزارة المعنية هنا بتأليف لجنة دائمة أو جهاز دائم لتقييم هذه التجربة بشكل متواصل، وهي طريقة ادارية مؤقتة للإصلاح تتناسب مع عادات وممارسات عمل الموظفين والوسائل القانونية والانسانية التي توجد تحت تصرفها.
ومن إيجابيات هذه الاستراتيجية في الإصلاح الإداري أنها تدفع الإدارة التقليدية إلى الشعور بوجود مهام مستجدة أو معقدة وأهداف بعيدة المدى تتعلق بالإدارة، كما أنها ستنشر روح المبادرة في الإدارة وتكون أداة للمنافسة والتحفيز داخل المؤسسات والهيئات الإدارية، أما بالنسبة لسلبياتها فتكمن في ظهور الصراع أو النزاع نتيجة عدم التمييز الدقيق بين إدارة المهمة وإدارة التيسير، وبالتالي عدم استبدالها للهيئات القديمة الأمر الذي يؤدي إلى تأخير اصلاح البنى التقليدية والوقوف عائقاً أمام الإصلاح الإداري.
رابعاً- استراتيجية الإصلاح الشامل
وتشمل هذه الاستراتيجية الجمع بين أطراف التغيير وديناميات المصالح المتمثلة في المؤسسات الحكومية والعاملون فيها، والقيادة السياسية، والمؤسسات التشريعية، وجماعات المصالح والضغط، وأجهزة وخبراء الإصلاح الإداري.
وغالباً ما تلجأ الدول إلى استراتيجية الإصلاح الشامل عندما تواجه أزمات مفاجئة وحادة، فإذا لم يكن لديها أجهزة دائمة للإصلاح؛ فيتم الاستعانة بخبراء ومستشارين وتكليفهم بإجراء دراسات وأبحاث حول أوضاع الإدارة، وتقديم التوصيات والمقترحات لحل المشكلات والعقبات.
وهذه الطريقة قد تصطدم في بعض المراحل بنزعة العمل الفردي لدى بعض المسؤولين الإداريين، والتعقيدات الإدارية التي تتطلب المتابعة والملاحقة الدقيقة لمعالجتها، فضلاً عن التكاليف الباهظة التي يمكن تكلفها.
وبالإضافة إلى هذه الاستراتيجيات الثلاث قد تلجأ الدول أحياناً إلى تشكيل لجان عمل مؤقتة أو هيئات متخصصة جماعية لحل المشكلات التي تعترض الإدارة العامة. وبالرغم من كونها هيئات متخصصة جماعية إلا أن طبيعتها المؤقتة وعدم ديمومتها تصعب من نجاحها، حيث تفترض طبيعة الإصلاح الاستمرار والثبات، فضلاً عن كونها تفتقر للمتابعة والمراقبة أثناء تنفيذ عمليات الإصلاح.
ويمكن أن تنجح اللجان المؤقتة في معالجة بعض المشكلات البسيطة غير المعقدة في المشاريع الخاصة، أما المشاكل الكبيرة والانحرافات الخطيرة فإنها تعجز عن حلها، وتحتاج لمعالجتها أجهزة دائمة في وجودها ومتطورة في أدائها وأعضائها، ومتكيفة في عملها ومهامها.
وقد أكدت الممارسة الفعلية في سورية أن وراء فشل كل محاولات الإصلاح الإداري السابقة هو سوء اختيار الاستراتيجية المناسبة والالتزام بتطبيقها ومتابعة تنفيذها.
فما هي الاستراتيجيات التي اعتمدتها محاولات الإصلاح الإداري السابقة في سورية؟ وما هي الاستراتيجية الأمثل الذي يجب الأخذ بها لتحقيق مفاعيل الإصلاح الإداري المنشود؟
إنّ المتتبع لمحاولات الإصلاح الإداري السابقة في سورية يجد أنها كانت جزئية ومرحلية ولا تستند إلى استراتيجية واضحة، أو خطة عملية جدية لتنفيذ مشاريع الإصلاح الإداري، وذلك يعود لأسباب عديدة أصبحت معروفة للجميع، وأهمها هو غياب المحاسبة والمساءلة أو حتى المراجعة لأداء الحكومات السورية المتعاقبة من قبل السلطة التشريعية أو السياسية، وعدم تصدي الأجهزة القضائية والرقابية لواجباتها في مكافحة ظواهر الفساد الإداري والاقتصادي إلا في حدود ضيقة وبشكل خجول، فضلاً عن غياب البنية التنظيمية المختصة بالإصلاح والمهيأة بشرياً ومادياً وتقنياً لقيادة برنامج الإصلاح الإداري.
وقد جاءت سنوات الأزمة والحرب على سورية لتتوقف خلالها كل محاولات الإصلاح الإداري باستثناء بعض الجهود الشخصية في بعض الوزارات التي لم تكتمل، باعتبار أن الأولوية كانت للدفاع عن الوطن ومكافحة الارهاب.
ولذلك كان لا بدّ من إطلاق “المشروع الوطني للإصلاح الإداري”، من قبل السيد رئيس الجمهورية بتاريخ 20/6/2017، حيث أكد فيه على ضرورة إصلاح الجهاز الإداري في الدولة وفقاً لجدول زمني محدد، وأوكل تنفيذه إلى وزارة التنمية الإدارية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي الاستراتيجية التي تبنتها وزارة التنمية الإدارية لتطبيق المشروع الوطني للإصلاح الإداري؟ وهل المخرجات والنتائج التي تحققت حتى الآن تتناسب مع الآمال والطموحات التي عقدت على هذا المشروع؟
للإجابة على السؤال الأول لا بدّ من العودة إلى خطاب السيد رئيس الجمهورية أمام مجلس الوزراء بتاريخ 20/6/2017، حيث تحدث عن المرحلة السابقة المتضمنة عملية التحديث والتطوير الذي تمّ منذ بداية العقد الأول في هذه الألفية إلى ما قبل الأزمة بقليل، وكان عبارة عن عملية إصدار عدد هائل جداً من القوانين والتشريعات بعضها كانت ارتجالية وعشوائية، وخلُص إلى نتيجة أن الموضوع لا يتعلق فقط بإصدار قوانين وتشريعات وإنما ببيئة العمل أيضاً.
وراء فشل كل محاولات الإصلاح الإداري السابقة هو سوء اختيار الاستراتيجية المناسبة والالتزام بتطبيقها ومتابعة تنفيذها
وتحدث عن التجربة السابقة فيما يخص الفساد مؤكداً أن “الفساد هو ليس فقط تلقي الرشوة، وأحياناً سوء الإدارة أو عدم القيام بالعمل المطلوب أو عدم متابعة صلاحيات الوزير أو المدير في قطاع معين هو شكل من أشكال الفساد”.
وبعد حديثه عن الفساد تمّ الانتقال إلى عرض المشروع الوطني للإصلاح الإداري، الذي يرتبط بقاعدتين أساسيتين في الإدارة، القاعدة الأولى تقول أنك لا تستطيع إدارة ما لا تستطيع قياسه فهناك معايير مهمة جداً في الإدارة يجب قياسها وهذه المعايير تخضع لما يطلق عليه مقبولية القياس.
فالمعايير الكمية من السهل الحصول عليها، أما المعطيات النوعية هي التي لا يستطيع أي وزير أو مدير أن يقيسها في أي مؤسسة بسبب عدم توفر أي أدوات حقيقية لقياسها، فكيف يمكن قياس رضى المواطن وقياس رضى الموظف؟
أما القاعدة الثانية التي استند إليها المشروع بشكل واضح هي أن الاستمرار في استخدام نفس الأدوات القديمة لا يمكن أن يعطي نتائج جديدة، وبالتالي بمجرد إصدار قوانين وتشريعات على النمط القديم لم يعد مقبولاً.
وطالما أن الأدوات في الإدارة هي الأشخاص سواء كانوا إدارة عليا أو إدارة متوسطة أو العاملين والبنية التشريعية والتنظيمية، فلابدّ من التركيز عليها في التدريب والتأهيل، لأنّ القوانين والهيكليات بحد ذاتها قد تكون نموذجية، ولكن الأنظمة الداخلية والأدوات قد لا تكون على المستوى المطلوب.
ومن هنا تمّ اقتراح إنشاء مركز القياس والدعم الإداري، ومرصد الأداء الإداري، وتمّ وضع إطار زمني وبرنامج تنفيذي لهذا المشروع يعطي مهل محددة للوزارات للتكيّف معه، مع انفتاحه عل إمكانية المراجعة المستمرة له.
وبتحليل الاستراتيجية التي ركّز عليها مشروع الإصلاح الإداري في سورية؛ نجد أنها اقتصرت في الوقت الحالي على تطوير عمل الجهات العامة ودعم الشفافية المؤسساتية، من خلال الاستجابة لتطلعات المواطن، وتلبية استحقاقات المصلحة العامة ومكافحة الفساد الإداري.
وقد اعتمدت الحكومة السورية على أداتين لتنفيذ هذا المشروع، وهما: إحداث وحدة تنظيمية مركزية في وزارة التنمية الإدارية لتنفيذ المشروع باسم “مركز دعم وقياس الأداء الإداري”، وتصميم نافذة إلكترونية لتكون جسراً بين مشاريع التنمية الإدارية والمواطن، وبوابة لتنفيذ حملات تحسين الخدمات، ومرصداً لتصنيف المؤسسات “منبر صلة وصل“.
لا يمكن أن يقود هذا المشروع إلى إصلاح إداري شامل وحقيقي إلا عند شموله لقمة الهرم الإداري في الحكومة
وبالرغم من أهمية هذه الاستراتيجية في تطوير وتحديث الجهاز الإداري في سورية فيما لو تمّ تطبيقها وتنفيذها على أكمل وجه؛ إلا أنها غير كافية لإحداث إصلاح إداري شامل في الإدارة العامة السورية، لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية للعاملين في الإدارة العامة والبيئة التشريعية التي يجب أن تترافق وتتواكب مع تنفيذ هذا المشروع.
بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الاستراتيجية تركز على رضى المواطن والموظف، لكنها لم تبيّن بوضوح أولوية بداية الإصلاح الإداري هل هي للتركيز على أسفل الهرم الإداري، أو على وسط الهرم الإداري، أو على قمة الهرم؛ فهذا المشروع لا يمكن أن يقود إلى إصلاح إداري شامل وحقيقي إلا عند شموله لقمة الهرم الإداري في الحكومة.
فالتحدي الأساسي في هذه العملية هي أنها عملية تغيير، وهناك علم قائم بحد ذاته ونظريات في إدارة التغيير، وبطبيعة الحال هناك من يرفض ويحارب بشتى السبل هذا التغيير، لأنه يرفض أي جديد من شأنه أن يهدد مصالحه أو مركزه الوظيفي.
وأخيراً فإنه من المبكر الحكم على مدى فاعلية هذا المشروع الطموح ومدى تحقيقه لأهدافه، لاسيّما في ضوء عدم الانتهاء من مراحل برنامجه التنفيذي، حيث تجاوز مرحلتي التأسيس والحضانة، ودخل في مرحلة التمكين والاستجابة، ولم يصل بعد إلى مرحلة قياس الأثر التي من المفترض أن تستقر آليات عمل المشروع خلالها، وأن نشهد النضوج الحقيقي له وتلمس الأثر الإيجابي على أداء المؤسسات والجهات العامة.
ولكن وكما يقال “المكتوب يقرأ من عنوانه”، فإنّ المعطيات والوقائع الحالية بعد مرور سنة من إطلاق هذا المشروع تبيّن بأن عمل الوزارات والجهات العامة في سورية حتى تاريخه لم تعطِ أي انطباع بالاستعداد الجيد لهذا المشروع واستحقاقاته، بل على العكس من ذلك نجد أن الروتين والبيروقراطية والفساد الإداري في تصاعد، فضلاً عن الشخصنة والمحسوبية والكيدية ما زالت تشكل إحدى أهم الصفات لعمل المتحكمين بمفاصل القرار الإداري في العديد من الوزارات والجهات العامة.
فلم يعد مبرراً على سبيل المثال أن يستغرق تحويل كتاب من مكتب إلى آخر يفصل بين بابيهما متر واحد أربعة أيام في وزارة يفترض أن تكون رائدة في تطبيق هذا المشروع!! وكذلك الأمر بالنسبة إلى تقديم طلب روتيني ومرور شهر دون أي معالجة له بالرغم من المتابعة اليومية له من قبل مقدمه دون جدوى
Discussion about this post