تعد التكنولوجيا من أهم عناصر التنمية والتقدم في القرن الحادي والعشرين، وتؤكد الدراسات الحديثة أن 90% من الزيادة الإنتاجية و70% من النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة، يعزيان إلى التقدم الهائل في مجال التكنولوجيا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدول المتقدمة هي دول منتجة للتكنولوجيا تساهم هذه التكنولوجيا مساهمة فعالة في دعم النمو الاقتصادي وتلبية احتياجات التنمية في هذه الدول.
إن تنمية أي مجتمع وتحقيق استقلاله يتطلبان من الدولة ألا تعمل فقط على نقل التكنولوجيا الأجنبية واستخدامها، بل توفر الأجواء المناسبة لتوطين التكنولوجيا والعمل على تطويرها وابتكار تكنولوجيا محلية، مع استثمار الموارد والإمكانات المحلية لتحقيق ذلك.
ولقد أدركت الدول النامية أهمية عقود نقل التكنولوجيا والأحكام التي ترد فيها، ودور هذه العقود في نقل التكنولوجيا وحيازتها، ومن هذا المنطلق بدأت تلك الدول بتقنين عملية حيازة التكنولوجيا، وتركزت الجهود على موضوع اختيار التكنولوجيا والأحكام التي من خلالها يتم الحصول على التكنولوجيا والعمليات المعنية.
أولاً- نقل التكنولوجيا مفاهيم أساسية :
لقد تعددت تعاريف مصطلح التكنولوجيا بين أن هناك شبه اتفاق على تعريف التكنولوجيا بأنها المعرفة المتخصصة التي توجه لتحقيق غرض عملي ونقل التكنولوجيا في أبسط مفاهيمه هو استعمال معرفة خارجية لتحقيق غرض أو أغراض داخلية سواء داخل الدولة المعنية، وهناك مصدران رئيسيان للحصول على التكنولوجيا هما المصادر الداخلية أو الخارجية:
ولقد أصبحت عقود نقل التكنولوجيا ولاسيما تراخيص حقوق الملكية الفكرية من أهم الوسائل وأفضلها لنقل التكنولوجيا سواء بين الدول المتقدمة نفسها أم بينها وبين الدول النامية، وهناك العديد من الصور المتباينة لعقد نقل التكنولوجيا وتختلف هذه الصور باختلاف الغاية التي يرجوها طالب التكنولوجيا، ويتعين على طالب التكنولوجيا قبل الإقدام على التعاقد أن يتخذ الوسيلة التعاقدية التي تتناسب مع الغايات والتطلعات المستقبلية التي يستهدفها وتتفق مع توجهات الخطط والبرامج التي يتبناها.
ويعتبر ما يلي عقداً لنقل التكنولوجيا على وجه الخصوص سواء تضمن أم لم يتضمن سلعاً إنتاجية:
1- البيع أو الترخيص بجميع أشكال حقوق الملكية الفكرية، وخصوصاً براءات الاختراع والعلامات والأسماء التجارية والرسوم الصناعية.
2- توفير الخبرات العملية والفنية والعملية والخدمات الهندسية.
3- توفير خدمات الخبراء في تقديم المشورة الفنية والإدارية والتدريب.
4- توفير الخدمات الخاصة بتشغيل المؤسسات وإدارتها.
5- القيام بخدمات التشييد والتشغيل.
ثانياً – أهداف نقل التكنولوجيا:
لقد أدركت البلدان النامية بعد تجاربها المريرة في تحقيق التنمية والتحرر من التبعية والتخلف أن تحقيق تنمية ذاتية شاملة يكون باتباع أسلوبين، أولهما: رفع مستوى التعليم وتشجيع البحث العلمي والتطوير والتعلم والابتكار والإبداع، وثانيهما: نقل التكنولوجيا واستيعابها وتطويعها بما يتلاءم مع الظروف والبيئة والإمكانات المحلية.
إن استيراد التكنولوجيا مسلك صائب، هذا إذا تمت تلك الممارسات من خلال إستراتيجية وطنية واضحة المعالم والأهداف مع الأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
1- إن حائز التكنولوجيا يسعى دوماً للحفاظ والاستئثار بالتكنولوجيا التي في حوزته بغية احتكار الأسواق.
2- يسعى العديد من المؤسسات الأجنبية لفرض شروط تقييدية وتعسفية من خلال عقود نقل التكنولوجيا بهدف إدامة احتياج الطرف المستفيد من التكنولوجيا إلى الطرف المورّد.
3- الاعتبارات السياسية والاقتصادية ورغبة العديد من الدول في الاحتفاظ بموقعها المتقدم على خريطة العالم السياسية.
4- يسعى العديد من الدول الصناعية لتصدير الصناعات الملوثة والخطيرة إلى دولنا.
5- يستغل العديد من الشركات الأجنبية ضعف الدراية العملية والمعرفة الفنية في الدول النامية، فيستخدم المشاريع التي يشارك في تأسيسها كحقل تجارب لبعض طرائق الإنتاج التي استحدثها ولم تثبت كفاءتها عملياً.
6- لم تعد سوق التوريد حكراً مطلقاً على عدد محدود من الشركات التي تحتكر بدورها سوق التكنولوجيا.
لذا يبدو من الضروري أن تكون عملية نقل التكنولوجيا الأجنبية إلى الدول النامية وفق أهداف محددة تخدم أغراض التنمية الشاملة، والأهداف الرئيسية لحيازة التكنولوجيا ينبغي أن تتمحور حول الركائز التالية:
1- تنمية القدرات التكنولوجية الوطنية وتعتبر عنصراً رئيسياً من عناصر أي تنمية شاملة، فمن دون توافر الموارد البشرية المدربة ليس بالإمكان حدوث أي تطور تكنولوجي حقيقي..
وتشمل تنمية القدرات عمليات البحث والتدريب ورفع مستوى الأفراد ورفع كفاءة المؤسسات التي تتفاعل مع التكنولوجيا وإيجاد الأوضاع التنظيمية والقانونية التي تولد الحاجة إليها، فالقدرات التكنولوجية تتطور بدرجة أكبر عندما توجد الحاجة والمكافأة الاجتماعية.
2- زيادة القدرة على التصدير:
تركز معظم الدول النامية اهتمامها عند نقل التكنولوجيا على موضوع تصدير السلع والخدمات كدعم أساسي للاقتصاد الوطني، والجدير بالذكر أن قبول القيود التي تفرض على تصدير السلع والخدمات ضمن إقليم محدود غالباً ما يعوق تطور الصناعة الوطنية ويقلل من قدرتها التنافسية ويحد من إمكان زيادة الإنتاج وتحقيق الربح الذي تأمله بإعادة التصدير.
السؤال الذي يطرح نفسه علينا: لماذا يقبل العديد من المؤسسات الإنتاجية في دولنا القيود التي تفرض على حقوق التسويق خارج الأسواق القطرية؟
إن اعتبار عملية تقل التكنولوجيا على أنها مجموعة من الآليات والتجهيزات فقط ساهمت سلباً في إنجاح مثل تلك الممارسات التقييدية، هذا إضافة إلى سيطرة المفهوم التجاري على معظم ممارسات نقل التكنولوجيا في الأقطار العربية، ومن ذلك فإن نسبة كبيرة من التكنولوجيا التي تقتنيها من الممكن اعتبارها تجارة للتكنولوجيا أكثر مما تكون نقلاً حقيقياً للتكنولوجيا هذه النظرة بحاجة إلى تغيير جذري كي تحل محلها مفاهيم صحيحة تضمن لنا تنمية تكنولوجية مستقلة.. لذا ينبغي الإحجام عن الدخول في مثل هذه الترتيبات التقييدية، وإلا فلن نتعدى في كثير من الأحيان حد التجميع لمكونات مستوردة كمرحلة نهائية للتصنيع..
تغلب صفة صغر حجم السوق على العديد من الدول العربية ولذا ينبغي أن تولي مسألة تنمية قدرات المؤسسات الوطنية على التصدير أولوية متقدمة، وهذا يتضمن الاهتمام والوعي المتعاظم في اختيار الجهات الموردة للتكنولوجيا التي تمنح تسهيلات تجاه حقوق التسويق خارج القطر، وقد نتصور أن هذه عملية سهلة ومباشرة الأمر على عكس ما نتصور، ففي أغلب الأحيان يحرص مورد التكنولوجيا على أن يقتصر إقليم تسويق المنتجات على بلد المستفيد من التكنولوجيا.
3- البحث والتطوير:
إن نشاط البحث والتطوير نشاط خلاق يساهم بصورة فعالة في دعم المهارات التكنولوجية، وخلق جو يساعد على الابتكار والإبداع، ويمثل بدوره رافداً يمول التجمعات الصناعية بخلاصة نتائج البحوث العلمية، كما أن وحدات البحث والتطوير تضطلع بدور رئيسي في نقل التكنولوجيا المستوردة وتطويعها وتطبيقها وتطويرها لمواءمة المدخلات والعمليات المحلية وإشباع الحاجات الأساسية للمجتمع، إن هذه المؤسسات البحثية توفر المعرفة اللازمة لدراسة المشاكل التي تعترض سبيل نمو الصناعة الوطنية وتطورها وإيجاد الحلول الناجعة لها، إضافة إلى أنها تساهم في تنمية هذه المعرفة والدراية الفنيبة لتكوين مخزون معرفي ووطني.
وتجدر الإشارة إلى الأغلبية العظمى من الشركات الأجنبية الموردة للتكنولوجيا تتجه إلى عدم إقامة وحدات للبحث والتطوير عند تنفيذ المشاريع الإنتاجية في الدول النامية، إضافة إلى عدم تجهيز الدول النامية بالمعدات والأجهزة اللازمة لتشغيل عمليات البحث والتطوير ما يؤدي إلى زيادة تبعية الدول النامية للشركات الموردة للتكنولوجيا، وفي الجانب الآخر فإن معظم الشركات المحلية تحجم عن طلب إنشاء وحدات للبحث والتطوير على أرضها اعتقاداً منها بأن هذه الوحدات بحاجة إلى موارد مالية باهظة لتشغيلها وإلى فترة زمنية طويلة كي تحقق نتائج ناجعة وهي بدورها قد تعيق عملية الإسراع في التنمية.
لذلك ينبغي على حكومات الأقطار العربية من خلال أجهزتها المختلفة أن تشجع الصناعة الوطنية على إنشاء وحدات للبحث والتطوير في المنشآت الصناعية، مع إلزام الصناعة بتخصيص نسبة مئوية من أرباحها أو إجمالي مبيعاتها على هذه الوحدات، وفي مقابل ذلك تمنح الحوافز للصناعة التي تنشئ وحدات للبحث والتطوير ذات حجم مناسب يمكنها من أداء الواجبات التقانية سواء في التطوير والابتكار أم في استيعاب التكنولوجيا المستوردة وتطويعها والقيام بواجبات البحث والتطوير.
4- المدخلات المحلية في الإنتاج
لقد اعتاد مورد التكنولوجيا أن يربط بين توفير التكنولوجيا للمستفيد وبين استيراد السلع الإنتاجية أو المكونات أو المواد الأولية من المرخص أو من المؤسسات التابعة له، هذا النوع من الممارسات يزيد درجة الاعتماد على السلع والمكونات الأجنبية وهذا ما تسعى إليه الشركات الأجنبية لزيادة دخلها وضمان أسواق أكيدة لمنتجاتها.
إن مسألة “المكون المحلي” تبلغ درجات كبيرة من الأهمية والخطورة عند الحديث عن عقود التراخيص ولا سيما في قطاع الصناعات الهندسية والتجميعية، لذا ينبغي الحرص على أنه يتم استغلال المنتجات المحلية وإلى أبعد الحدود للحصول على المواد الوسيطة أو الأولية أو المكونات أو قطع الغيار، عند التعاقد بدلاً من مدخلات مستوردة بما يقلل من نسبة المكون الأجنبي في تكلفة المنتج النهائي وإقلال الاعتماد على التجهيزات الخارجية.
إن زيادة المكون المحلي في مدخلات التصنيع ينبغي أن تكون أحد الأهداف الرئيسية لترتيبات نقل التكنولوجيا وتستلزم أن يسن لذلك التشريع المناسب من الدولة مع توفير الحوافز المشجعة على ذلك، إن تحديد قيمة النسبة والفترة الزمنية يتوقف على مستوى الإمكانات المحلية ومدى إمكان تطورها في المستقبل المنظور.
ثالثاً: اختيار التكنولوجيا والمرخص:
تعاني أغلبية الدول النامية بما فيها الأقطار العربية ضعفاً بنيوياً في القدرة على اختيار التكنولوجيا التي تحقق أكبر قدر من الفائدة والتي تتناسب مع خطط التنمية وذلك لافتقار تلك الأقطار إلى نظام معلومات عن التكنولوجيا المتوافرة وغياب القدرات لاختيار الموائم منها وغيرها من المحددات، وهذا بدوره يؤدي إلى سيطرة بائع التكنولوجيا على مشتريها.
غالباً ما تتدخل اعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية في عملية الاختيار، ومن الواضح أن هذه الاعتبارات هي المحرك والدافع الحقيقي لاختيار العديد من التكنولوجيات في جلّ الدول النامية ما قد يشكل عائقاً حقيقياً أمام عملية نقل التكنولوجيا.
ويجدر القول هنا: إن سوق توريد التكنولوجيا في الآونة الحاضرة لم يعد حكراً مطلقاً على عدد محدود من الشركات التي تحتكر بدورها سوق التكنولوجيا، فقد ظهر منافسون جدد في بعض الدول النامية (البرازيل والهند وكوريا وتايوان وغيرها) لينضموا إلى قائمة موردي التكنولوجيا، فهناك العديد من المؤسسات في الدول النامية ودول أوروبا الشرقية والشركات المتوسطة الحجم في البلدان الصناعية تملك تكنولوجيا لا تقل جودة عن تكنولوجيا الشركات العملاقة من جانب، كما أن هذه الشركات قد تكون أكثر ملاءمة للظروف المحلية، وأكثر استعداداً لتقديم التكنولوجيا المطلوبة.
إن عملية تحديد التكنولوجيا المطلوب الحصول عليها من الخارج أو الحصول على معلومات عن المعدات الإنتاجية أو المواد أو غيرها تفترض قدراً من المعلومات والكفاءة للكشف عن مزايا التكنولوجيا المعنية وأفضل طريقة للحصول عليها، بيد أن أغلبية المؤسسات الحكومية والصناعية في أقطار الوطن العربي تفتقر في كثير من الأحيان إلى معلومات بشأن مصادر التكنولوجيا وإمكانات استغلالها، وتعوزها الوسائل الضرورية لتقويم مختلف المصادر التكنولوجية واختيار أفضلها، وذلك من أجل تحديد مقدار ملاءمة هذه التكنولوجيا احتياجاتها والتفاوض حول الحصول عليها بشروط عادلة ومعقولة.
لدلك يبدو من الضروري معرفة مصادر التكنولوجيا المختلفة بما في ذلك البيانات والمعلومات المتعلقة بنشاطات واختصاصات الشركات الصناعية والمرخصين في العالم، وتجارب الدول النامية (سواء التجارب الناجحة أم الفاشلة والأسعار وأحكام العقود المختصة بكل نوع من التكنولوجيا.
رابعاً: الوسائل التعاقدية لنقل التكنولوجيا
تتضمن عقود التكنولوجيا العديد من الأحكام التي تفنن عملية النقل التجاري للتكنولوجيا وتوضح التزامات طرفي العقد وعادة ما تكون هذه الأحكام مقيّدة لنشاط الطرف المتلقي للتكنولوجيا.
ومن المفيد أن نذكر أن هناك وسائل قانونية عدة من الممكن استعمالها لإجراء عملية نقل التكنولوجيا واكتسابها تجارياً، من أهمها:
1- عقد الخدمات التكنولوجية:
إن عقد الخدمات التكنولوجية هو اتفاق لتقديم خدمات ومساعدات تكنولوجية متخصصة أو تطوير الخدمات التكنولوجية القائمة في مجال معين بما يؤهل أحد الأطراف لتأدية مهامه بصورة تحقق له أهدافه حتى يتمكن المشروع أو الصناعة من التنافس في السوق وبشكل كفؤ.
إن من أهم الاعتبارات التي ينبغي الأخذ بها عند التفاوض لإبرام عقد الخدمات التكنولوجية موضوع تدريب الأطر البشرية المحلية، فموضوع تدريب موظفي “المستفيد من التكنولوجيا” يعد أمراً بالغ الأهمية لمعظم الدول الراغبة في حيازة الدراية العملية والمهارات الفنية والإدارية.
2- عقد الاستشارات والخدمات الهندسية:
هذا الصنف من الاتفاقات التجارية يتعلق بطلب المساعدة من خبير استشاري لإسداء المشورة ولتقديم الخدمات المتعلقة بالتخطيط لاكتساب التكنولوجيا بالفعل.
غالباً ما يلجأ الطرف المحلي إلى بيوت خبرة استشارية عالمية والتي عادة ما تكون مرتبطة بالشركات المتعددة الجنسية.
وفي الواقع إن كثيراً من الدراسات يشير إلى خطورة الاعتماد المطلق على بيوت الخبرة الأجنبية لأنها لا تسهم كثيراً في توفير فرص تدريب المهندسين الوطنيين واكتساب الخبرات لديهم، ولعدم اهتمامها بتشجيع البحث والتطوير على المستوى المحلي.
لذلك ينبغي تبني سياسة وخطة وطنية ترمي إلى بناء قدرات استشارية كفؤة أو تطويرها على مستوى الدولة قادرة على تقديم خدمات استشارية وهندسية حقيقية وذلك ضمن إطار مؤسسي متسق، متناسق، قادر على التفاعل بين أجزائه المختلفة واستيعاب كل المستجدات.
إن السبيل إلى تحقيق تلك السياسة ينبغي أن يتم على ثلاثة محاور رئيسية:
أ- أداة قانونية تنظم السياسة وتتخذ شكل قانون أو مرسوم أو لوائح تهدف في مجملها إلى بلورة سياسة تكنولوجيبة وطنية وفق المبادئ والاعتبارات المحلية والخارجية.
ب- تأسيس أجهزة وطنية وتطويرها لتقديم الخدمات الهندسية والاستشارات.
ج- بناء علاقات تعاون متبادلة مع مؤسسات مستشارية متخصصة أجنبية لفتح المجال أمام المهندسين والفنيين الوطنيين لكي يتمكنوا من الممارسة التكنولوجية الفعلية، إن إحدى أهم الصعوبات التي تواجه ممارسات اكتساب التكنولوجيا في دولنا هي انعدام القدرات المحلية الكفؤة في مجال إعداد الدراسات والرسوم والتصاميم المسبقة لتنفيذ أي مشروع وفق المواصفات والمقاييس المعمول بها في الصناعات الحديثة، لذا يستحسن تشجيع قيام بيوت خبرة مشتركة (محلية – أجنبية) وأن تعطى الأولوية في العطاءات لهذه البيوت.
3-عقد “تسليم المفتاح”:
غالباً ما تأخذ المشاريع في المراحل الأولى من النمو الصناعي نسق تسليم المفتاح ويتضمن تسليم المفتاح تنظيماً شاملاً لبعض الوسائل القانونية التي يتعهد بموجبها أحد الأطراف بأن يسلم مصنعاً كاملاً قادراً على العمل وفقاً لمعايير الأداء المتفق عليها.
ومن الممارسات التي يجب الحرص على تحقيقها من خلال نسق تسليم المفتاح هي ما يتعلق بالاستفادة من المدخلات المحلية (مواد- معدات- خدمات.. الخ) فمعظم الشركات الأجنبية تميل إلى استيراد المواد والسلع من مشاريع الشركة الخارجية على الرغم من وجودها في الأسواق المحلية، الأمر الذي يترتب عليه إهمال مصادر العرض المحلية من المواد الخام والسلع الوسيطة.. إضافة إلى الحد من المساهمة الفعلية في تنمية المؤسسات الإنتاجية في الدولة وشل محاولة دمجها في سلسلة التصنيع المحلية.
في الواقع إن الأغلبية العظمى من الشركات الأجنبية الحائزة على عقد تسليم المفتاح في دولنا تقوم بجلب “عدتها” الكاملة معها لإقامة مشاريعها بما في ذلك الحزمة التكنولوجية التي تحتاج إليها، وبمعنى آخر فإن معظم المشاريع تتم بأدنى حدود المشاركة من المؤسسات والقوى البشرية المحلية، وفي السياق نفسه فإن عقود تسليم المفتاح تكبح نمو تطور الخدمات الهندسية المحلية حيث إن الحزمة التكنولوجية تكون شاملة جميع النشاطات، ويجدر القول: إن هذه السهولة في الحصول على التكنولوجيا تشكل إحباطاً لدعم القدرات المحلية في مجال البحث وتطوير التكنولوجيا وتخلق نزعة استهلاكية للتكنولوجيا مبنية على استيراد الحزم التكنولوجية الجاهزة للاستعمال والتي غالباً ليس ممكناً فكها لتعلم أسرار تكوينها.
تنطوي بعض عقود تسليم المفتاح على مهمة تدريب الأطر البشرية المحلية لتشغيل التجهيزات حين إكمالها، وعلى الرغم من أهمية هذا الإجراء فهو غير قادر بذاته على نقل التكنولوجيا التي تتطلب التصميم، فقدرة التشغيل تختلف وتنفصل عن القدرة على التصميم التي تعد المحور الذي ترتكز عليه عمليات اكتساب التكنولوجيا وبمنزلة الحزام الناقل للتكنولوجيا، إن بناء قدرات تكنولوجية ذاتية محلية وتطويرها يبدأ مع اكتساب الأطر البشرية المحلية وامتهانها لمهارات التصميم.
إن الطلب من المقاول الأجنبي بتدريب بعض الأطر الوطنية لتشغيل التجهيزات حين إكمالها ليس بالأمر الكافي لرفع مستوى الصناعة وصيانتها، بل يحتاج هذا الرفع إلى قدرات فنية تفوق كفاية الذي يشغلونها، لذا فإن هناك حاجة إلى اختيار فريق محلي (القرين الفعال) وإشراكه مع الطرف الأجنبي في كل مراحل المشروع، وهذا بدوره يكفل في كثير من الأحيان تطوير القدرات التكنولوجية المحلية ما يسهل فك الحزمة التكنولوجية وتوليد طاقات على مستوى عال من التخصص في مجال التخطيط والتفاوض والتصميم والتشييد والصيانة وغيرها.
4- عقد الإدارة:
يتم الارتباط بعقد الإدارة في مرحلة ما بعد التشييد في حالة المشاريع الصناعية، حيث تكون هناك حاجة في بعض الأحيان إلى الاستعانة بخبرات كفؤة خارجية سواء على شكل أشخاص أم شركة للاضطلاع بمهام إدارة المنشأة الصناعية وتشغيلها مقابل مكافأة مالية معينة يتم الاتفاق على طريقة تحديدها ومن خلال وسيلة قانونية “العقد”.
هذه المهام قد تتضمن النشاطات التالية ولا تقتصر عليها: إدارة عملية الإنتاج الأمور الفنية والهندسية والصيانة والخدمات التكنولوجية والتسويق والمشتريات والإدارة المالية وشؤون التنظيم والإدارة وإدارة شؤون الأفراد والسلامة والأمن والتدريب والشؤون الإدارية وغيرها.
والفارق بين عقد الإدارة وبقية عقود نقل التكنولوجيا هو أن المدير “الشركة الأجنبية” يفوضه المالك تفويضاً عقدياً ليدير الشركة أو المشروع وليس لتقديم خبرة أو خبرات استشارية أو تقانية أو هندسية كما هو الحال في بقية العقود.
يتعين علينا أن نشير إلى أن عامل نقل التكنولوجيا في عقود الإدارة يكمن في نقل القدرات التنظيمية والإدارية إلى المستفيد وموظفيه، ذلك من خلال برامج التدريب والممارسة العملية أو ببساطة من خلال عمل موظفي “المستفيد” مع الخبراء والمهندسين والإداريين الذين يوفرهم مورد التقانة.
إن الأمر الذي يستحق أن يولى اهتماماً كبيراً عند مرحلة التفاوض لإبرام أي عقد إدارة هو ما يتعلق بالفترة الزمنية لسريان أحكام العقد، فالأمر يقتضي بأن تكون فترة سريان العقد ثابتة ومعقولة بحيث يتسنى للمستفيد خلال هذه الفترة تحقيق أهدافه في الإطار الزمني المحدد للعقد ومن أهمها بناء وتطوير مقدرة فنية تكنولوجية محلية مؤهلة لاستلام مهام إدارة المنشأة عند انقضاء أجل العقد.
5- عقد الترخيص:
يعد منح تراخيص حقوق الملكية الفكرية وتوفير الخبرة العملية من أهم الوسائل التعاقدية لنقل التكنولوجيا، وينتشر هذا النوع من العقود بين الدول المتقدمة فغالباً ما يتم إبرام عقود التراخيص بهدف التعاون بين مشروعين أو أكثر، ما يمكن أحد الأطراف من تفادي أخطاء “المراحل التجريبية” التي وقع فيها الطرف الآخر.. ويقدم عقد الترخيص إلى الدول المتقدمة منافع عديدة بما يحقق لها من توفير في المال والوقت والجهد، ويمكنها من حشد مواردها في الاتجاهات التي ترغب في أن تبدع فيها، تلك الصورة البسيطة من صور عقود نقل التكنولوجيا هي المنتشرة بين المشروعات في الدول المتقدمة، بحيث يتمتع كل من طرفي العقد بدراية عملية وخبرات فنية متقاربة إن لم تكن متعادلة، ولقد استفاد الكثير من الدول المتقدمة من عقود التراخيص ولاسيما اليابان ويعزى هذا النجاح أساساً إلى وجود قاعدة تكنولوجية وصناعة قوية ومتينة فيها.
خامساً: شروط عقد نقل التكنولوجيا وتنمية القدرات التكنولوجية الوطنية
لقد أوضح العديد من دراسات عقود نقل التكنولوجيا في الدول النامية ضعف التوجهات لبناء القدرات التكنولوجية الوطنية وتدني تدفق المعارف والخبرات التكنولوجية التي تساهم في إحداث التحول والتغير التكنولوجي من تلك الأقطار.
وقد أكدت التجارب الناجحة أن عقود نقل التكنولوجيا يجب أن تشمل الأحكام التالية حتى تساهم مساهمة فعلية في بناء القدرات التكنولوجية الوطنية وتطويرها ورعايتها:
1- الالتزام بتدريب موظفي “المستفيد” من التقانة:
غالباً ما يتم اللجوء إلى الكفاءات المهنية للمرخص أو مورد التكنولوجيا من أجل تدريب موظفي “المستفيد” من التكنولوجيا بشكل يسمح للأخير إحلال موظفيه محل المهندسين أو المختصين، وكذلك المسؤولون عن الإدارة الذين يوفرهم له مورد التقانة والإشراف على ضمان حسن سير المنشأة الصناعية.
إن بعض الدول النامية تشدد على أن أي ترخيص براءة أو عقد بشأن توريد الخبرة العملية اللازمة لإنتاج سلع استهلاكية أو مواد أخرى أو صناعة سلع إنتاجية، يجب أن يتضمن حكماً خاصاً بتدريب عدد واسع من الموظفين على أمور التخطيط والتصميم والتشييد والتشغيل، ولقد انتقلت بعض تشريعات نقل التكنولوجيا الحديثة خطوة أخرى إلى الأمام عندما فرضت على مورد التكنولوجيا تقديم برنامج للتدريب مع التكفل بجزء كبير من نفقات التدريب.
2- الالتزام بنقل التحسينات وإجرائها:
يعد السؤال المتعلق بالحصول على التحسينات أو الإضافات أو الاختراعات أو إجرائها خلال مدة سريان عقد نقل التكنولوجيا قضية على درجة كبيرة من الأهمية ولا سيما للطرف المستفيد من التكنولوجيا وبحاجة إلى أن يدرج لها حكم مستقل في المستند القانوني، فعناصر التكنولوجيا ليست بعناصر ساكنة، بل هي على العكس من ذلك تماماً، عناصر قابلة للنمو والتطور والتوسع ويتم إغناؤها بما يضاف إليها من تحسينات وتطويرات، وكما هو معلوم إن الخبرة العملية يتم نقلها إلى المرخص له خلال فترة زمنية معينة، ولربما خلال هذه الفترة أضاف المرخص بعض التحسينات والتطويرات على الخبرة العملية محل العقد، على أي حال يجب أن يحرص الطرف المستفيد من التكنولوجيا على ألا تصبح عملياته التصنيعية “مماتة” بسبب الفشل في الحصول على التحسينات والتطويرات في المستقبل أو عدم سماح مورد التكنولوجيا للطرف المحلي بإجراء التحسينات والتطويرات.
ومن الشروط التقييدية والتعسفية في آن واحد هي القيود التي يفرضها مورد التكنولوجيا على عمليات إجراء التحسينات والتطويرات والتي تمنع المستفيد من التكنولوجيا من تطويع التكنولوجيا المستوردة وأقلمتها مع الظروف المحلية أو إدخال تغييرات وتجديدات عليها.. وفي الجانب الآخر فإن الاعتماد المطلق على حيازة التكنولوجيا الأجنبية فيه إدامة للتبعية ولن يقود الدول النامية إلى تنمية مستقلة، إضافة إلى إضعاف الجهود التي توجه إلى بناء القدرات التكنولوجيا الوطنية وتنميتها، فمن هذا المنطلق ينبغي أن يسعى الطرف المستفيد من التكنولوجيا للحصول على حق إجراء التحسينات والتطويرات على التكنولوجيا محل العقد، بهدف تجذير التكنولوجيا محلياً، ويجدر القول هنا: إن إجراء التحسينات مدخل قويم إلى تعزيز قدرات البحث والتطوير.
لقد اهتم العديد من التشريعات الوطنية التي تقنن ترتيبات نقل التقانة بالحد من الممارسات التقييدية، ولا سيما ما يتعلق منها بالقيود التي تفرض على عمليات إجراء البحوث أو إدخال التحسينات والتطويرات.
3- الترخيص والمقاولة من الباطن:
غالباً ما تكون المصلحة من جانب المستفيد من التكنولوجيا عند منحه الترخيص من الباطن، فقد يرغب في منح بعض المزايا لمؤسسات محلية أو خارجية، والسماح لتلك المؤسسات بتطبيق التكنولوجيا أو ممارسة حقوق الملكية الفكرية، وبذلك يساعد مبدأ الترخيص من الباطن على توفير بعض المزايا للمنتجين الآخرين، وتيسير إمكانية الحصول على التكنولوجيا المتوافرة في البلد بالفعل، ناهيك عما يمثله الترخيص من الباطن من تحفيز لتوطين التكنولوجيا وتوليد تكنولوجيا محلية وبناء القدرات التكنولوجية كانطلاقة أساسية للدخول إلى الأسواق العالمية.
وجدير بالذكر أن المرخص أو مورد التكنولوجيا يكون رافضاً في معظم الحالات مبدأ منح ترخيص من الباطن، وإذا كان هناك قبول من جانب المرخص لإدراج نص في العقد حول هذا الخصوص فإنه يجب على المرخص له أو المستفيد من التكنولوجيا إخطار المرخص للحصول على الموافقة المسبقة التي غالباً ما تقابل بالرفض.
وثمة جانب مهم في مسألة الترخيص من الباطن وهو ما يتعلق بمبدأ “المقابلة بالمثل” فالمرخص أو المورد للتكنولوجيا يحرص دائماً على إدراج شرط في العقد ينص على حق المرخص في الحصول على التحسينات والتطويرات وبراءات الاختراع التي ينجزها المرخص له ولها علاقة بالتكنولوجيا محل العقد، مع منحه ترخيصاً من دون عوائد والحق في منح تراخيص من الباطن، فمن منطلق “المقابلة بالمثل” ينبغي منح المرخص له حق منح ترخيص من الباطن بعد التشاور مع المرخص أو مورد التكنولوجيا ويجدر القول هنا أن التشاور لا يكون لأخذ الموافقة.
الخاتمة
إن المطلع على ممارسات حيازة التكنولوجيا الأجنبية وترتيباتها في الوطن العربي يرى الاعتماد غير المتكافئ على الدول الصناعية المتقدمة للحصول على التكنولوجيا “المعرفية” و”المجسدة” ويجاريه تخوف من الاعتماد على القدرات الوطنية.
أولى العديد من البلدان العربية التنمية الصناعية اهتمامه كمصدر لتنويع مصادر الدخل ورأت تلك الدول أن استيراد التكنولوجيا الإنتاجية الأجنبية سيجعل تحقيق تلك التنمية الصناعية المنشودة واقعاً ملموساً، وفي الجانب الآخر استغلت الدول المصدرة للتكنولوجيا هذه الفرصة وحرصت على أن تتم العملية بصورة تجارية بحتة، وبمعنى آخر، فإن الدول الصناعية حرصت على أن تجعل مفهوم التكنولوجيا ينحصر ضمن إطار ما تصدره إلينا من آلات ومعدات وتجهيزات رأسمالية.
لذلك من الضروري صياغة مجموعة من الإجراءات والمعايير تهدف إلى مراقبة عقود نقل التكنولوجيا وتحسين الشروط والأحكام الواردة فيها، إضافة إلى تأسيس الهيكل التنظيمي المتخصص وإعداد الكفاءات الوطنية لإنقاذ تلك الإجراءات والمعايير بما يكفل نقل وتوطين حقيقي للتكنولوجيا المستدامة.
Discussion about this post