بقلم: د. جهاد بكفلوني
يفعل الانفعال فعلَهُ السّلبيَّ المضلَّ في أذهان شريحةٍ واسعة من المواطنين في وطنِنا الغالي؛ فيلقي على بصائرهم حجباً كثيفةً تحول دون رؤيتهم معالمَ الطّريقِ الذي يجب أن يسيروا فيه، فتراهم يخبطون فيه خبطَ عشواءَ، وليتهم يعلمون بما يفعلون!.
تكثر هذه الحالةُ من السّيرِ على غيرِ هدىً عندما يطغى موضوعٌ ما على السّطحِ؛ فيغدو مثارَ اهتمامهم، وتراهم يتحدّثون عنه في مجالسهم العامّةِ والخاصّةِ، وقد يستمرُّ هذا الموضوعُ أمداً طويلاً من الوقت مستحوذاً على قلوبهم وعقولِهم، وتدفعهم هذه الحالةُ إلى طرحِ آراء وأفكارٍ وتصوّراتٍ؛ تكونُ قريباً من الواقع قابلةً للتّنفيذ تارةً، بعيدةً عنه غيرَ قابلةٍ للتّنفيذِ تارةً أخرى.
وليس بخافٍ على أحد أنّ موضوعَ الإصلاحِ الإداريّ بات حديثَ القاصي والدّاني في سورية، يجتمع القوم عليه ويفترقون، يتّفقون ويختلفون.
يجتمعون على أنّه ضرورةً ملحّةٌ لا يمكن الاستغناءُ عنها، ويفترقون عندما يصرُّ كلُّ واحدٍ منهم على أنّه يملكُ الدّواءَ النّاجعَ الشّافي الذي يخلّصُ الإدارةَ في سورية من حالةِ التّرهّلِ التي مرَّ عليها وقتٌ طويلٌ وهي ترسفُ في أغلالِها.
يتّفقون على أنّ عمليّةَ الإصلاحِ الإداريِّ يجب أن تنطلق على الفورِ، ولا مبرّرَ للتّأخّر في إطلاقِها، ويختلفون في طريقةِ الإطلاقِ.
بادئَ ذي بدءٍ يجب أن نتّفقَ على أنّ الإدارةَ في سورية تعاني من مرضٍ لم يعدْ من المجدي عدمُ البوحِ به؛ لأنّه بات ظاهراً في قسماتِ وجهِها، وربّما لا نبالغُ إذا قلنا إنّها لا تشتكي مرضاً واحداً فحسْبُ، بل جملةَ أمراضٍ لا يمكن السّكوتُ عنها، وإلاّ فإنّ الحالةَ ستستمرُّ في التّردّي إلى أن نصلَ إلى تلك اللّحظةِ التي نصبح فيها غيرَ قادرين على صنعِ شيءٍ ما معها، وهذا ما لا نتمنّاهُ بحالٍ من الأحوالِ.
ولا يحتاجُ الأمرُ إلى خبيرٍ لوذعيٍّ ألمعيٍّ عميقِ الخبرةِ ليعرفَ حقيقةَ هذا الوضعِ، ويكفي أن نذكرَ أنّ المصطلحات التي بتنا نتداولها تلتقي كلّها على صعيدٍ واحدٍ، هذا الصّعيدُ يشيرُ تصريحاً لا تلميحاً إلى أنّ أمورَ الإدارةِ ليستْ بخيرٍ.
من هذه المصطلحات: الفساد، المحسوبيّة، الرّشوة، اللاّمبالاة، التّرهّل، غيابُ الاختصاص، الحرصُ على المصلحة الشّخصيّة، عدم الاهتمام بالمواطن، الفرار من تحمّلِ المسؤوليّةِ، غيابُ المبادرةِ الفرديّة، غيابُ روحِ الجماعةِ في العمل؛ والقائمةُ تطولُ وتطولُ، وربّما حرصّنا على الإشارةِ إلى أبرز علامات المرضِ ودلائله.
وبوسْعِ المواطنِ في سورية أن يشاهدَ صفرةَ وجهِ المريضِ منذُ اللّحظةِ الأولى التي يجيلُ فيها بصرَهُ متفرّساً في معالمِ هذا الوجه، ولا يحتاجُ الأمرُ إلى بذلِ جهدٍ كبيرٍ لكي يستنتجَ هذا المواطنُ أنّ المرضَ لم يعدْ سرّاً يمكنُ كتمانُهُ، بل بلغَ درجةً متقدّمةً من الذّيوعِ والانتشارِ.
في هذا المجال أسوقُ مثالاً بسيطاً يعرفه كلٌّ منّا.
حسبُكَ أن تقومَ بمراجعةِ إحدى الدّوائر في قطاعِنا العامِّ أو الخاصِّ؛ لتكتشفَ عقليّةَ ذلك الموظّفِ الذي يحرصُ حرصاً كبيراً على وضعِ العصيِّ في العجلاتِ، والمؤلمُ في الموضوعِ أنّك تشاهدُ الكثيرَ من اللاّفتاتِ المعلّقةِ على الجدرانِ في مؤسّساتِنا الحكوميّةِ، وكلّها تتحدّث عن خدمةِ المواطنِ، العنايةِ بالزّبائنِ، الحرص على الوطن وأبنائه، وما شئتَ من ألفاظٍ طنّانةٍ رنّانةٍ تعجزُ عجزاً فاضحاً عن الاقتراب من الواقع، بل تبقى مقيمةً في برجِها العاجيّ، بعيدةً عن التّطبيقِ بعدَ الأرضِ عن السّماءِ.
وأذكرُ حادثةً تعرّشُ على ذاكرتي، ولا تبرحها إلى يومِنا هذا.
اشترى أحدُ الأصدقاءِ سيّارةً جديدةً فرحَ بها فرَحَ الثّرى الظّمآنِ بانهمارِ الغيثِ الهتونِ، وشاءَ القدرُ أن تقعَ حادثةٌ معه بعدَ ثلاثةِ أيّامٍ من شراءِ السّيّارةِ، وكانت حادثةً مزعجةً أدّت إلى أضرارٍ بالغةٍ حاقتْ بذلكَ المولودِ الجديدِ (السّيارة).
حملَ الصّديقُ همومَ الأرضِ، وأحزانَ الأوّلينَ والآخرينَ، وانطلقَ صوبَ الوكالةِ التي اشترى منها السّيّارةَ، وعلى كلِّ بابٍ من أبواب تلك الوكالةِ قرأ تلك العباراتِ المشرقةَ الزّاهيةَ التي جعلتْهُ يظنُّ أنّ القدرَ رماهُ في حضنِ أمّهِ أو أبيه، بل في حِضنيهِما كليهما.
استقبلَهُ مديرُ القسمِ المسؤولِ عن قطعِ الغيارِ بابتسامةٍ طويلةٍ عريضةٍ ذكّرتْ صديقَنا بقولِ الشّاعرِ العربيِّ:
هو البحرُ من أيِّ النّواحي أتيتَهُ فلجّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِّهِ غيرُ روحِهِ لجادَ بها فليتّقِ اللهَ ســــــــــــائلُهْ
تحدّثَ المديرُ حديثاً ذا شجونٍ عن مآثرِ الشّركةِ التي وضعتْ ثقتَها فيه، وعن الشّأوِ البعيدِ الذي بلغتْهُ في معارجِ التّقدّمِ والرّقيِّ، عن حرصِها على تقديم خدماتِ ما بعدَ البيعِ، وعن الغاية التي لا تكلُّ ولا تملُّ في سبيلِ الوصولِ إليها، وتتمثّلُ تلك الغايةُ في نيلِ رِضى الزّبونِ أوّلاً وأخيراً.
أصغى صديقي إلى كلِّ كلمةٍ من كلماتِ هذا الحديثِ مفتوناً به وبصاحبِهِ، ثمّ عرضَ على المتحدّثِ اللّبقِ السّببَ الذي حدا به إلى المجيءِ إلى الشّركة.
أفهمه ذلك المديرُ أنّ الموضوعَ بسيطٌ؛ بل غايةٌ في البساطةِ، لكنّه قد يكلّفُ صاحبَ السّيّارةِ مبلغاً ليس بالكبيرِ، فوافقَ صديقي على كلِّ بنودِ الاتّفاقِ الذي جرى مع ذلك المديرِ، وقبلَ أن يغادرَ مقرَّ الشّركةِ سأله: متى سآتي لأخذِ سيّارتي وقد استعادت الهيئةَ التي كانتْ عليها قبلَ وقوعِ الحادث؟، فبثَّ المجيب الطّمأنينةَ في قلبِهِ أنّ فترةَ الانتظارِ لن تتجاوزَ ثلاثةَ أسابيعَ على أبعدِ تقديرٍ.
أخذَ الصّديقُ يعدُّ اللّيالي ليلةً بعدَ ليلةٍ وقد عاشَ دهراً لا يعدُّ اللّيالي، وعندما أزفَ ذلكَ اليومُ الأغرُّ الميمونُ انطلقَ إلى مقرِّ الشّركةِ، وكم كانت صدمتُه قويّةً عندما شاهدَ سيّارتَهُ العزيزةَ الغاليةَ كما تركها مركونةً في زاويةٍ مهملةٍ، لم تمسّها يدُ أحدٍ من العمّالِ الذين لم يشمّروا عن ساعدِ الجِدِّ لإصلاحِ تلك المركبةِ المكلومةِ.
استفسرَ عن سببِ التّقصير، فجاءَهُ الرّدُّ أنّ مردَّ ذلك إلى عدمِ وجودِ قطعِ غيارٍ للسّيّارةِ، وأنّ عليهِ الانتظارَ فترةً أخرى لن تتعدّى الفترةَ السّابقةَ.
عادَ الصّديقُ مرّةً ثانيةً إلى الشّركةِ، فشاهدَ الصّورةَ السّابقةَ دون أدنى تعديلٍ طرأَ عليها، وتكرّرَ المشهدُ نفْسُهُ سؤالاً وجواباً دون أن يمسَّهُ التّحويرُ من قريبٍ أو بعيدٍ.
وعندما ضاقتْ عليه الأرضُ بما رحُبتْ شكا همَّهُ إلى صديقٍ متنفّذٍ يجمعه بصاحب الشّركة ودٌّ قديمٌ لم تخلقْ ثيابُه، وانطلقَ الاثنان إلى الشّركة.
بعد إلقاء التّحيّةِ على رئيس قسم قطعِ الغيار الذي استقبلَ الضّيفين بوجهٍ متجهّمٍ؛ سأله المتنفّذُ عن الفترة التي ستمكثُ فيها السّيّارة قبل أن تستعيدَ شكلَها الذي كانت عليه، فردَّ عليه ذو الوجه المتجهّم قائلاً: الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحظّ، والحظّ يرتبط بموعدِ وصول هذه القطعِ من بلدِ المنشأ، قد يتمّ الأمرُ خلال أسبوعين أو ثلاثةِ أسابيعَ، وقد يطولُ أمدُ الانتظار إلى أشهرٍ لن تمرَّ مرَّ السّحابِ، ولعلَّ هذا يريدُ تذكيرَنا بقولِ الشّاعرِ:
تطولُ بيَ السّاعاتُ وهْي قصيرةٌ وفي كلِّ دهرٍ لا يسرُّكَ طولُ
عندئذٍ طلبَ صديقي من المسؤولِ السّماحَ له بإحضار رافعةٍ تقطرُ السّيّارةَ إلى مكانٍ آخرَ يمكن فيه إصلاحُها دون أن يُجلدَ بسوطِ الوقتِ؛ فردَّ عليه قائلاً: قرارُ إدخالِكَ السّيارةَ في يدِكَ، لكنَّ قرارَ إخراجِها في يدِنا.
وعندما بدا أنّ لغةَ التّفاهم مع ذلك الموظّفِ المغرورِ المتعالي مفكّكةُ الحروفِ اضطرَّ المتنفّذُ إلى الاتّصالِ بصاحبِ الشّركة جوّاليّاً، وشكا له سوءَ تصرّفِ المسؤولِ وفظاظتَهُ، وطلبَ إخراجَ السّيارةِ، فما كان من صاحبِ الشّركة إلاّ أن وبّخَ الموظّفَ العاملَ لديه توبيخاً شديداً، وتكرّم بمنحِ الموافقةِ على إخراجِ السّيّارة ليصارَ إلى إصلاحها في مكانٍ آخرَ.
القطاعانِ العامّ والخاصّ مشكلاتٌ واحدةٌ
لا أدري لماذا قفزتْ إلى ذهني بينما كنتُ أستعرضُ الحادثةَ صورةُ شرطيّ المرورِ الذي يظنّ أنّ مهمّتَهُ تنحصرُ في تحريرِ المخالفات للسّائقين؛ منصرفاً عن المهمّةِ التي يجبُ أن يؤدّيها على خيرِ ما يرامُ، ألا وهي تنظيم حركةِ سيرِ السّيارات والآليّات بأنواعِها المختلفة، وتنظيمُ حركةِ المشاةِ في الشّوارعِ، لكنْ ممّا يؤسَفُ له أن تلك المهمّة باتتْ نسياً منسيّاً في أذهانِ الكثرةِ الكاثرةِ من عناصر شرطة المرورِ.
وهذه الحادثةُ تذكّرُني -وأنّى لي أن أنسى- أنّ المشكلاتِ الإداريّةَ الموجودةَ في القطاعِ الخاصِّ لا تختلفُ لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ عن تلك الموجودةِ في القطاعِ العامِّ.
ويمكن الإشارةُ على نحوٍ سريعٍ إلى هذه المشكلاتِ:
– وجود موظّفين لا يبالون بالسّلعةِ الأغلى في حياتِنا، وأعني بها الوقتَ، وإهمالُهم هذا هو الذي يجعلُهم ينجزون خلال شهرٍ ما يستطيعون إنجازَهُ في يومٍ أو في أسبوعٍ على أبعدِ تقديرٍ.
– التقيّد بنصِّ القانونِ لا بروحهِ تقيّداً يجعلُ هذا القانونَ قيداً يعيقُ حركةَ العملِ اليوميِّ، ويحولُ دونَ انسيابِها وتدفّقِها بيسرٍ وسهولةٍ.
– غيابُ روحِ المبادرةِ الفرديّة لدى الموظّفِ، ولجوء معظمِ صغارِ الموظّفين إلى تحميل مَن هم أعلى منهم في السّلّمِ الوظيفيِّ مسؤوليّةَ اتّخاذِ القرارِ، وينجم عن ذلك دخولُ حركةِ العملِ اليوميِّ في نفقٍ مظلمٍ من البطءِ والجمودِ، ولا يلوحُ ضوءٌ مبشِّرٌ في نهايةِ ذلك النّفقِ.
– وجود مديرين يحرصون حرصاً كبيراً على إمساك القرار بأيديهم، ولا يتركون لمرؤوسيهم أدنى مساحةٍ للتّحرّك؛ ما يؤدّي إلى البطءِ في اتّخاذ القرار، فالموظّف ذو الرّتبة الدّنيا لا يستطيع أن يحرّكَ ساكناً دون الحصول على موافقة الموظّف ذي الرّتبة العليا، وهذا بدورِه يلجأ إلى مَن هو أعلى منه رتبة، وهذا تتعقّد الأمور إلى درجة تكاد تصيبُ دورةَ العملِ بالشّللِ التّامِّ، أمّا الحديثُ عن إصابتها بشلل جزئيّ فأمرٌ مفروغٌ منه.
– ضعف معدّل الرّواتب والأجور بصورةٍ باتتْ ملموسةً في وطنِنا الغالي بعد تلك الحرب الحاقدة التي شُنّتْ عليه، ولعلَّ هذا العاملَ يُعدُّ من أشدِّ العواملِ بروزاً في أسباب تخلّفِ الإدارة في سورية؛ فالعامل منشغل عن العمل في حصرِ تفكيرِهِ في كيفيّةِ تلبيةِ الحاجات اليوميّةِ المتزايدة عليه يوماً بعدَ يومٍ. تراه ساهمَ الوجه، منشغلاً بحسابٍ يجريه هنا وآخرَ يُجريه هناكَ، وفي هذا الجوّ يصبح أداؤه ضعيفاً إلى أبعد الحدود، وتصبحُ درجةُ الإنتاجِ عندَه في أدنى مستوياتِها.
– وجود قوانين ولوائح تنظيميّة عفّى عليها الزّمن، وباتت حجرَ عثرةٍ في طريقِ التّطوّر والنّهوضِ المنشودين، هذه القوانين لا تراعي إيقاع العصر الذي نعيش فيه، ولا تواكبُ حركته المتسارعة تسارعاً صاروخيّاً، يلفّها الجمودُ من المنبع إلى المصبّ، ويزيد الطّينَ بلّةً وجود موظّفٍ ذي عقليّةٍ (عثمانيّةٍ) يتمسّكُ بأهداب تلك القوانين تمسّكاً أعمى، ومن الأهميّة بمكان إعادةُ النّظر فيها، وإخضاعُها لناموسِ التّطوّر، وإلاّ ظلَّ حديثُنا عن الإصلاحِ الإداريّ أضغاثَ أحلامٍ لا تسمِنُ ولا تُغني من جوعٍ.
– شعورُ الموظّفِ الذي يشغلُ موقعاً متقدّماً في الهرمِ الوظيفيّ أنّ جهازَ الدّولةِ بإمكاناته الماديّةِ والبشريةِ مسخَّرٌ لخدمته، ومن المفترَضِ أن تكونَ الآيةُ مقلوبةً؛ بمعنى أنّ هذا الموظّفَ يجب أن يعرف أنّه هو الذي يجب أن يكون في خدمة الدّولة، وأنّ كلَّ ما يملكه من إمكانات يجب أن يكونَ مسخَّراً لخدمةِ أبناءِ وطنِهِ.
أسبابُ التّخلّف الإداريّ في سورية
لا أريدُ الخوضَ في ثنايا هذا الموضوع الذي باتَ معروفاً للقاصي والدّاني، لكن أوجزُ بصورةٍ مجملة أسبابَ ذلك مشيراً إلى النّقاطِ التّالية:
يرى الجمهورُ الكبيرُ من الباحثين أنّ الدّول التي اصطلِحَ على تسميتِها بالدّول النّامية تحملُ سماتٍ تكادُ تكونُ عامّة منها:
– شيوعُ استعمال بعض المفاهيم المقتبسة اقتباساً معلّباً جاهزاً من الدّول المتقدّمة في المجال الإداريّ، ويحلو للبعض تشبيه هذا الاقتباس ببيدرِ حنطةٍ يحملُ كميّةً كبيرةً من الزّوان.
هذا الاقتباسُ يجعلُ تلك المفاهيم أشبهَ ما تكونُ بأصنام يعكف عليها عابدُها ولا يكلّفُ نفْسَه عناءَ السّؤال: لماذا أعبدُها، وهل تستحقُّ فعلاً أن تكونَ أهلاً للعبادة؟!
– عجزُ هذه الدّول عن اختيار النّماذجِ الإداريّة التي تراعي قيمَ مجتمعاتِها ومُثلها وعاداتها، ومن الطّبيعيّ أن يكون الفشل بانتظار هذه النّماذج بعد دخولِها ميدانّ التّطبيقِ.
– سيطرة بعض النّظمِ الإداريّة المتخلّفة الجامدة التي لم ترحلْ عن هذه البلاد برحيل المستعمِرِ عنها.
– ظهور تلك الفجوة الكبيرة بين ما تمليه هذه النّماذج من أسس وقوانين والطّريقة العمليّة لتطبيقها، وهي فجوة تبيّن في ظلّ الممارسة العمليّة أنّ ردمَها ليس بالأمر المتاح على المديينِ القصيرِ والبعيدِ.
مع الإشارة إلى أنّ هذه الأسس والقوانين التي تمّ استيرادُها معلّبةً جاهزةً من الغرب كانت غير ملائمة لهذه الدّول، وتبيّن بعد فترةٍ وجيزةٍ من تطبيقِها أنّها لم تكنْ صالحةً أساساً، لأنّها لا تراعي طبيعة الدّولة المطبَّقة فيها، وقد خلقتْ في مراحلَ تاليةٍ كمّاً كبيراً من المشكلات التي لا يمكنُ حصرُها.
– إنّ مقولة: (الشّرقُ شرقٌ والغربُ غربٌ تبدو حقيقةً ولن يلتقيا)) تبدو حقيقةً نلمسُها لمسَ اليقين عندما نجري مقارنةً بين وضعِ الإدارةِ في الغربِ ووضعِها في الشّرق، وممّا يؤسَفُ له أنّ كثيراً من مثقّفينا ورجال الفكر والإدارة مازالوا إلى يومِنا هذا مصرّين على عدمِ التّسليم بصحّةِ هذه المقولةِ.
– بروز مجموعة تدعو إلى إمساك العصا من منتصفِها، وتنادي بإدارةٍ تأخذُ من الغرب المفيدَ النّافعَ رافضةً إخضاعَه للتّعديل المطلوب، ما خلا لمساتٍ بسيطةً لا تقتربُ من جوهره الأصليّ.
هذه هي بصورةٍ سريعةٍ أهمّ أسباب تخلّفِ الإدارة في سورية.
أمّا الحلول فنرتكبُ خطأً فادحاً عندما ندّعي أنّ هناك حلولاً جاهزةً، وكلُّ ما علينا أن نعطيَ المريضَ الدّواء.
الحلول يجب أن تكون مستنبطةً من الواقع العمليّ، ولطالما وجِّهت إلينا تهمةٌ مفادُها أنّنا كعربٍ أمّةٌ جيّدةٌ في التّنظير سيّئةٌ في التّطبيقِ.
علينا أن نعرفَ أسبابَ المرضِ بعدَ مراقبةِ حالةِ المريضِ عن كثبٍ؛ تمهيداً لتشخيصِ الدّاء على نحوٍ سليمٍ، للانتقال بعد ذلك إلى مرحلة وصف العلاج المناسب والدّواءِ الفعّالِ.
الإصلاح الإداري طريقٌ طويلٌ، علينا السّيرُ فيه مهما تحشّدت العقباتُ، وعلينا أن نبدأ اليومَ، ولا يجدر بنا انتظارُ الغدِ لأنّ الغدَ قد لا يكونُ مستعدّاً لانتظارِنا.
Discussion about this post