العالم الاقتصادي- رصد
هل ينبغي أن نكون أكثر تفاؤلاً بما سيحدث في المستقبل وفق ما تطالبنا به شركة “غوغل” وغيرها من الكيانات المعلوماتية العملاقة؟ تستند رؤية “غوغل” وتلك الكيانات إلى اعتقاد مفاده أن جعل شيء ما مرئياً يجعله أفضل وأن التقانة هي الأداة لجعل الأشياء مرئية. وجهة النظر هذه التي أصبحت تهيمن على العالم ليست خطأ بشكل جوهري فقط بل هي شديدة الخطورة بحسب ما يؤكده الباحث البريطاني جيمس برايدل James Bridle في كتابه “عصر مظلم جديد: التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل” الصادر باللغة الإنجليزية عام 2018 وترجمه إلى العربية مجدي عبدالمجيد خاطر لسلسلة “عالم المعرفة” التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
رئيس شركة “غوغل” إيريك شميت طرح تلك الرؤية عندما كان مديراً تنفيذياً للشركة نفسها، في دورة مؤتمر “روح العصر” التي عقدت في إنجلترا عام 2013 بحضور نخبة مختارة من الشخصيات المؤثرة من مختلف أنحاء العالم منطلقاً من قناعة مفادها أنه “بات من الصعب ممارسة الشر بشكل منهجي في عصر الإنترنت”. وضرب مثلاً على ذلك بقوله، إن الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا في عام 1994 ما كان لها أن تقع لو أن الناس هناك كانوا يملكون هواتف ذكية، مضيفاً أنه كان من المستحيل أن تقع تلك الجريمة ذلك أن المحيطين بهم كانوا سينتبهون لما كان يجري، وكانت الخطط ستتسرب! واستطرد قائلاً، “كان شخص ما سيكشف الأمر ويصدر عن شخص آخر رد فعل لمنع هذه المجزرة الرهيبة”!
مجازر هنا وهناك
ورداً على ذلك يقول برايدل وهو كاتب وفنان تشكيلي وصحافي وتقني ولد في لندن في عام 1980 “لقد وثق الطيف الواسع من المعلومات التي كانت بحوزة صناع السياسة على مستوى العالم خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، لكن الإشارة تشمل أيضاً القوى الاستعمارية السابقة في المنطقة مثل بلجيكا وفرنسا، خلال الأشهر والأسابيع التي سبقت التطهير العرقي وفي أثناء حدوثه وكان لعديد من الدول سفارات وموظفون آخرون على الأرض، إضافة إلى المنظمات غير الحكومية، في حين كانت الأمم المتحدة ووزارات الخارجية والجماعات التابعة لأجهزة الاستخبارات والجيوش تراقب الوضع عن كثب وسحبت طواقم موظفين رداً على تصعيد الأزمة. وتنصتت وكالة الأمن القومي على النشرات الإذاعية المشينة التي كانت تبث بعموم البلاد داعية إلى حرب نهائية من أجل اجتثاث الصراصير”. ويضيف برايدل “تكرر الأمر نفسه في البلقان في عام 1995 حين رصد موظفو الاستخبارات المركزية الأميركية المذبحة التي وقعت لثمانية آلاف رجل وصبي مسلم في مدينة سريبرينيتسا من غرفة عملياتهم في فيينا عبر القمر الاصطناعي ما كان ينقص في رواند وسريبرينيتسا ليس الدليل على وقوع عمل وحشي بل الاستعداد للتصرف بناء على هذا الدليل. لقد تبين المرة تلو الأخرى أن التقانة نفسها التي يشدد عليها شميت بوصفها قادرة على مقاومة الشر المنهجي وأقصد بها الهواتف الذكية تفاقم العنف وتعرض الأفراد لما يخلفه من دمار”.
ففي أعقاب إعلان نتيجة انتخابات كينيا المتنازع عليها في عام 2007 حل الهاتف الخلوي محل محطات الإذاعة في رواندا وغذى العنف المتصاعد تداول رسائل نصية تحث الجماعات الإثنية بكلا الطرفين على ذبح الطرف الآخر، فسقط ما يزيد على الـ1000 قتيل.
ويقول جيمس برايدل الأقمار الاصطناعية والهواتف الذكية في حد ذاتها تخلق العنف، بل إن إيماننا غير الناقد والغافل عن منفعتها المحايدة أخلاقياً هو ما يجعل عجزنا عن إعادة التفكير في علاقتنا مع العالم مستمراً. كل تأكيد قاطع لصلاح وحيادية التقانة يدعم ويغذي الوضع الراهن. المعلومات والعنف متصلان كلياً وبشكل معقد وتسليح المعلومات يتسارع من خلال تقانات تزعم أنها تؤكد السيطرة على العالم. والشراكة التاريخية بين المصالح العسكرية والحكومية والاقتصادية من جانب، وتطوير التقانات الجديدة من جانب آخر تجعلان هذا الأمر واضحاً. والآثار جلية في كل مكان، وعلى الرغم من ذلك لا نزال نسبغ قيمة مفرطة على المعلومات التي تحتجزنا داخل دورات مكرورة من العنف والدمار والموت.
تبدد تأكيد ضرورة العمل لجعل المعلومات نافعة على مدار السنوات الماضية، بمساعدة قوة المعالجة وذكاء الآلة ليحل محله التنظير الخالص. في النهاية تعول أي استراتيجية للحياة في العصر المظلم الجديد على الاهتمام بما يوجد هنا والآن، وليس على الاهتمام بما يبذله التنبؤ والمراقبة والأيديولوجيا والتمثيل الحوسبي من وعود وهمية. ويؤكد برايدل في هذا الصدد أن الحاضر هو دائماً حيث نعيش ونفكر، ويقع الوسط بين تاريخ مستبد ومستقبل لا سبيل إلى معرفته. ويضيف أن التقانات التي تشكل وتزود بالمعلومات تصوراتنا الحالية عن الواقع لن تزول، وينبغي ألا نتمنى زوالها في أغلب الأحوال، ذلك أن نظم دعم الحياة الحالية في كوكب يتألف من سبعة مليارات ونصف مليار إنسان لا يتوقفون عن الزيادة، تعتمد على هذه التقانات. ولا يزال، بحسب برايدل، استيعاب تلك النظم وتشعباتها واستيعاب الخيارات الواعية التي تقوم بها في تصميمها هنا والآن ضمن نطاق قدراتنا بالكامل. لسنا عاجزين، يختم برايدل، ولا تنقصنا الفاعلية ولسنا حبيسي الظلام بل كل ما علينا هو أن نفكر ونعيد التفكير وألا نكف عن التفكير، إذ تفرض علينا الشبكة، أي نحن وآلاتنا وما نفكر فيه ونكتشفه معاً، هذا التفكير.
السرديات التبسيطية
عشية عيد الميلاد في عام 2009 حاول شاب نيجيري تفجير شحنة ناسفة على متن طائرة أميركية كانت في رحلة بين أمستردام وديترويت، لكن بعض ركاب الطائرة تمكنوا من السيطرة عليه وإحباط محاولة التفجير. بعدها اعترف الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما أن المشكلة لم تكن في نقص المعلومات بل في زيادتها المفرطة، وقال “لم يكن هذا إخفاقاً في جمع المعلومات بل كان إخفاقاً في استيعاب المعلومات التي كانت بين أيدينا بالفعل والتأليف بينها”.
لقد هيمن على العالم الغربي منذ عصر التنوير، بحسب برايدل، منطق ثقافي يفترض أن مزيداً من المعلومات يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل، لكن الحقيقة هي أن عصر المعلومات يجعل العالم أشد التباساً، وأن قدرتنا على استيعاب هذا العالم تتضاءل في الوقت الذي يتفاقم فيه تعقيده التقني وأن من يمتلكون السلطة يستغلون هذا العجز عن الفهم في تعزيز مصالحهم. أصبحنا نعيش عصراً مظلماً جديداً يشهد، كما يقول المؤلف، ظهور مزيد من الأصوليات والسرديات التبسيطية ونظريات المؤامرة وسياسات ما بعد الحقيقة. ولم نعد نفهم كيف يحكم العالم أو كيف يقدم لنا، بدءاً من النظم المالية المارقة إلى خوارزميات التسويق، ومن الذكاء الاصطناعي إلى السرية التي تفرضها الدول على أنشطتها، في الوقت الذي تمتلئ فيه وسائل الإعلام بتكهنات غير مؤكدة يصدر أغلبها عن برمجيات مجهولة، وتسيطر فيه الشركات على موظفيها من خلال المراقبة والتهديد بالأتمتة.
الجنون أم السكينة؟
إن الطريقة التي نفهم ونفكر بها في موقعنا داخل العالم، وعلاقتنا بعضنا ببعض، ومع الآلات، هي ما سيقرر في النهاية ما إذا كانت تقاناتنا ستفضي بنا إلى الجنون أو السكينة، بحسب برايدل الذي يضيف أن “الظلام الذي أكتب عنه ليس ظلاماً حرفياً ولا هو يجسد غياباً أو انسداداً معرفياً كما تنطوي عليه الفكرة الإشاعة عن أي عصر مظلم، كما أنه ليس تعبيراً عن عدمية أو قنوط بل هو إشارة إلى طبيعة الأزمة الراهنة والفرصة السانحة بها: أزمة العجز الواضح عن رؤية ما هو ماثل أمام عيوننا وفرصة التصرف على نحو هادف داخل العالم بفاعلية وإنصاف، والبحث عن طرائق جديدة للرؤية من خلال ضوء آخر استناداً إلى الاعتراف بوجود هذا الظلام”.
ويضيف “في مذكراتها اليومية الخاصة المؤرخة في 18 يناير (كانون الثاني) 1915 في أحلك ساعات الحرب العالمية الأولى، لاحظت فيرجينيا وولف أن “المستقبل مظلم، وهو في رأيي أفضل وضع يمكن للمستقبل أن يصل إليه”، وعلقت ريبيكا سولنيت على ذلك بالقول: “هذا بيان خارق للعادة، إذ يؤكد أن المجهول ليس في حاجة إلى تحويله إلى معلوم من خلال رجم زائف بالغيب، أو اختلاق سرديات سياسية أو أيديولوجية صارمة”. ويؤكد برايدل أن ما ذكرته وولف ينطوي على حفاوة بالظلام ترغب، كما تشير عبارة “في رأيي”، في أن تظل مترددة حتى حول ما أكدته وولف بنفسها. ورأى أن الصراعات الطبقية والاجتماعية والترتبيات والمظالم التاريخية التي أشارت إليها وولف في مقالها الطويل “ثلاثة جنيهات” المنشور في عام 1938 لم تنحسر اليوم إلى حد بعيد، لكن ربما تغيرت بعض الأماكن التي يمكن التفكير فيها فالحشود التي اصطفت لمشاهدة مواكب اللورد مايور وحفلات التتويج في لندن في عام 1938 توزعت الآن على الشبكة في حين نزحت الأروقة وأماكن العبادة هي الأخرى إلى مراكز البيانات والكابلات المدفونة في قاع البحر. وهكذا، فإنه بحسب برايدل لا نستطيع إلا أن نفكر في الشبكة ولم يعد أمامنا سوى التفكير عبرها أو فيها. ويشدد على أنه لا شيء هنا موجه ضد التقانة، إذ يعني هذا أننا نقيم الحجة ضدنا نحن، بل هو نقاش من أجل المزيد من الاندماج المدروس مع التقانة، مقروناً بفهم أشد اختلافاً لما يمكن التفكير فيه ومعرفته حول العالم. ثمة جوانب للعصر المظلم الجديد- يستطرد برايدل- تشكل تهديدات وجودية حقيقية وفورية، أوضحها احترار مناخ الكوكب وأنظمته البيئية المتباينة. هناك أيضاً الآثار المتجددة لانهيار الإجماع وإخفاق العلوم وآفاق التنبؤ المبتورة وجنون الارتياب العام والخاص، وكلها تنم عن خصومة وعنف… “إن وجود تفاوتات في الدخل والوعي له آثار ضارة على المدى القريب”.
-العرب-
Discussion about this post