العالم الاقتصادي- رصد
إذا كان تغير المناخ يعتبر تحدي القرن الـ21 الذي يواجهه العالم، فمن شأن الهيدروجين أن يشكل “الحصان الأسود” الذي يفاجئ الجميع بكونه حلاً ناجعاً غير متوقع. حتى الآن، لم يحظ هذا المصدر الجديد للطاقة النظيفة باهتمام كبير بالمقارنة مع خيارات أخرى ترمي إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة [يطلق التعبير على الانبعاثات التي تتراكم في الغلاف الجوي وتحجز حرارة الأرض تحتها، فتتسبب بظاهرة الاحتباس الحراري]، من قبيل السيارات المزودة بألواح الشمسية أو تلك الكهربائية، ولكن هذه الحال تتغير بسرعة. هكذا نجد أن الأموال واليد العاملة تتدفق إلى شركات ومشاريع وبنى تحتية متخصصة في الهيدروجين، وتركز كلها تقريباً على إنتاج إمدادات من الهيدروجين تطلق مقداراً ضئيلاً أو معدوماً من الكربون، وذلك بفضل أوجه تقدم عدة سريعة وعميقة على صعيدي التكنولوجيا والسياسات. منذ 2020، أعلنت الشركات المطورة لتقنيات الطاقة إطلاق ما يربو على 150 مشروعاً جديداً لإنتاج الهيدروجين، وباتت تتجاوز الآن 250 غيغاواط/ ساعة من إنتاج الطاقة الجديدة (حوالى عشرة أضعاف الطاقة المتجددة التي أنتجتها الصين العام الماضي، وثلاثة أضعاف إضافات الطاقة المتجددة حول العالم بأسره). بطبيعة الحال، تسهم السياسة العامة في هذا التحول. في أقل تقدير، صاغ 35 بلداً حول العالم استراتيجيات رسمية محددة بشأن الهيدروجين، من بينها كندا وتشيلي وألمانيا والهند واليابان وهولندا وقطر والمملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة. وترى تلك البلدان أن الهيدروجين النظيف عامل ضروري في التصدي لأزمة تغير المناخ وفرصة هائلة بالنسبة إلى القدرة التنافسية التجارية.
حتى وقت قريب، استخدم الهيدروجين بشكل رئيس في صناعة الأمونيا وأنواع الوقود المكرر [تشمل الغازولين والديزل ووقود الطائرات النفاثة]. يأتي معظم هذا الهيدروجين من عمليات تستخدم الوقود الأحفوري، ومن دون اعتماد أي تدابير لخفض الانبعاثات، فتضيف 500 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي سنوياً، أو نحو واحد في المئة من مختلف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية. وعلى النقيض من ذلك، يتجه معظم الحماسة والاستثمار اليوم نحو استخدام الهيدروجين كوقود قائم بحد ذاته أو في صنع وقود جديد نظيف يراعي البيئة. وبدلاً من اللجوء إلى عمليات قديمة تضخ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ينصب التركيز على صنع الهيدروجين “الأخضر” green hydrogen ، بحسب تسميته. وتأتي هذه التسمية من أن عملية استخراج هذا النوع من الهيدروجين تستخدم الكهرباء النظيفة المتولدة من طاقة الشمس أو الرياح أو الماء أو الطاقة النووية، بدلاً من الوقود الأحفوري. وتستخدم تلك الطاقة النظيفة لتقسيم الماء إلى مكونيه الأساسيين، أي الهيدروجين والأوكسجين. يتسم هذا التوجه بالبساطة، إذ يشرح في صفوف الكيمياء حول العالم، ولا يتطلب أية عملية إحراق وقود، ويحتوي على قليل من الأجزاء المتحركة. ويؤدي الاستثمار في هذه التقنيات إلى وضع الهيدروجين الأخضر في مركز الصدارة بالنسبة إلى الإنتاج المستقبلي للوقود النظيف المتاح على نطاق واسع.
قبل خمس سنوات، كانت هذه الحماسة بشأن الهيدروجين الأخضر ستفاجئ كثيرين من خبراء الطاقة والمناخ، ممن رأوا أن الهيدروجين لاعب غير مرجح في مجموعة مصادر الطاقة المتنوعة في المستقبل. في الاقتصادات السابقة، تعذر على الهيدروجين الدخول في منافسة مع غيره من أشكال الوقود. ويرجع ذلك ببساطة إلى كونه باهظ الثمن كطاقتي الشمس والرياح، فيما البدائل متوفرة، من بينها الفحم والغاز الطبيعي والنفط الخام. في المقابل، ركزت المحاولات المبكرة التي رمت إلى جعل الهيدروجين جزءاً أكبر من الاقتصاد، على استخدامه في السيارات، ما كان سيتطلب تغييرات شاملة في ضخ ذلك الوقود عبر بنية تحتية من الأنابيب والمحطات وأرضيات المصانع.
تحفز أهمية التصدي لتغير المناخ الاهتمام بالهيدروجين، في حين أن تدابير جديدة للسياسة العامة، إلى جانب التقدم التكنولوجي الملحوظ، تجعل إنتاجه حقيقة عملية. التزم أكثر من 137 بلداً ببلوغ “الصفر الصافي” من الانبعاثات مع حلول 2050. ويعني ذلك أن تلك البلدان البلاد ستخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى نحو الصفر وتعوض كل ما يتعذر منع انبعاثاته من طريق زراعة الأشجار أو إزالة الكربون من الغلاف الجوي بوسائل أخرى. وتقدم شركات كبرى تعهدات مماثلة. فقد عزم أكثر من 320 شركة بالوصول إلى الصفر الصافي بحلول 2040. وراء هذه الوعود حسابات مناخية بسيطة قوامها أن تحقيق الاستقرار في تغير المناخ على المستويات كافة، يفرض على القطاعات جميعها في كل مكان، بما فيها الكهرباء والنقل والأغذية والتصنيع، الوصول إلى الصفر في الانبعاثات فعلياً، وأن تبقى عند هذا المستوى إلى الأبد.
يعمل هذا الحساب الجامد على تحفيز إنتاج كميات هائلة من الهيدروجين الأخضر بهدف خدمة تلك الأهداف. وفق تقديرات “وكالة الطاقة الدولية” International Energy Agency ، يتعين أن يزيد إنتاج الهيدروجين الأخضر العالمي 400 ضعف مع حلول 2050 كي يكون صافي الانبعاثات الصفرية ممكناً. إضافة إلى الأهداف المناخية الطموحة، يسهم التقدم التكنولوجي في التحول إلى الهيدروجين الأخضر. قبل 10 سنوات، كان الهيدروجين الأخضر أغلى كثيراً من نظرائه الأكثر تلويثاً (لا سيما الهيدروجين “الرمادي” المصنوع من الغاز الطبيعي أو الفحم). وتتمثل النقطة الأهم في هذا الصدد، بأن التراجع الكبير في كلفة توليد طاقة الرياح والشمس، يفسح المجال أمام الارتقاء في إنتاج الهيدروجين الأخضر إلى نطاق الممكن سياسياً.
وأخيراً، لقد صار وعد الهيدروجين الأخضر موضع تركيز. إذ إن ارتفاع معدلات إنتاجه وتنويع استخدامه، سيقود إلى مخاطر وتحديات. وفي سبيل تحقيق الإمكانات الكاملة للهيدروجين الأخضر في مكافحة تغير المناخ، يتحتم على البلدان المختلفة أن توظف استثماراتها في البنية التحتية، وتضع سياسات صحيحة هدفها تقليص الأخطار المحتومة حينما ستغدو سوق الطاقة الجديدة بسرعة، سوقاً تجارية.
الوعد
بالنظر إلى كونه وقوداً نظيفاً، يكتسي الهيدروجين أهمية استثنائية. إذ يحترق عند درجات حرارة عالية تساوي 2100 درجة مئوية. وتكفي تلك الحرارة لصنع الأسمنت والزجاج والصلب. إنه خفيف جداً، بل الأخف وزناً في الكون، ما يساعد في الحفاظ على كفاءته كوقود للنقل. وحينما يستخدم في خلية وقود، فإنه يولد الكهرباء عند الطلب.
[تمثل خلية الوقود نوعاً من البطاريات التي تستخدم الطاقة الكيماوية للـهيدروجين والأكسجين وغيرها من المواد، في توليد طاقة كهربائية بطريقة نظيفة وفاعلة].
كذلك يتحد الهيدروجين الأخضر مع مركبات أخرى في صنع أسمدة وبلاستيك وأنواع سائلة من الوقود. والأهم بالنسبة إلى الحد من آثار تغير المناخ، أن هذه الاستخدامات لا تصدر أي غازات دفيئة مباشرة، ما يجعل من الهيدروجين وقوداً مستهدفاً ومخزوناً أساسياً في اقتصاد خال من الانبعاثات. يضاف إلى ذلك أن حرق الهيدروجين ينتج ماء صالحاً للشرب، أو لإعادة تدويره إلى هيدروجين. إضافة إلى ذلك، بمجرد عزل الهيدروجين، يمكن أن يكون بمثابة لبنة أساسية لإنتاج أنواع أخرى من الوقود النظيف، أهمها الأمونيا التي تمثل “حصاناً أسود” آخر في سباق إزالة الكربون، إذ لا ينبعث أي كربون عند استخدامها، وتتميز بكثافة عالية في الطاقة، علاوة على سهولة تخزينها وشحنها. يعتبر الهيدروجين أيضاً حجر الأساس في الأسمدة ومنتجات مهمة أخرى، من بينها المتفجرات وسوائل التنظيف. ولما كان في المستطاع تخزين الهيدروجين والمنتجات المشتقة منه في الخزانات ومناجم الملح إلى أجل غير مسمى، يضحي في مقدوره تلبية الزيادات الحادة في الطلب أثناء التغيرات الموسمية في الطاقة، مع البقاء على أهبة الاستعداد في محطات الشحن.
وفي المقابل، عملية صنع الهيدروجين النقي وتحويله إلى منتج مفيد تتطلب كميات من طاقة التي قد لا تكون نظيفة أحياناً. إذ يستخدم الغاز الطبيعي لإنتاج الهيدروجين الرمادي، بيد أن العملية نفسها تطلق ثاني أكسيد الكربون، مفاقمة أزمة تغير المناخ. حينما يجري التقاط تلك الكميات من ثاني أكسيد الكربون أو تخزينها تحت الأرض، مع الإشارة إلى أنها منتج ثانوي لعلمية صنع الهيدروجين الرمادي، يشار إلى الهيدروجين الناتج من تلك العملية باسم الهيدروجين “الأزرق” النقي، الذي يكون نظيفاً جداً ومنخفض الكربون.
في سياق مواز، من المستطاع تحويل “الكتلة الحيوية” [بيوماس Biomass] التي تبدأ برقاقات الخشب ولا تنتهي بالقمامة، كيماوياً إلى هيدروجين حيوي، مع أو من دون احتجاز الكربون. [يستخدم تعبير الكتلة الحيوية في الإشارة إلى تجمع من مواد عضوية أو بقاياها].
وتولد العمليتان كلتاهما نوعاً من الهيدروجين يتمتع بمستوى منخفض جداً من الكربون، لكنهما تتطلبان مواد أولية (الفحم أو الميثان أو نفايات البلدية) يتوجب استخراجها وتخزينها وشحنها ثم تحويلها، بالترافق مع تخزين ثاني أكسيد الكربون الناتج من تلك العمليات كلها، تحت الأرض.
في المقابل، يستلزم إنتاج الهيدروجين الأخضر ثلاثة أشياء حصراً، مياه عذبة، ومحللات كهربائية تفكك الماء إلى عنصريه الذريين الهيدروجين والأوكسجين، وكهرباء منخفضة الكربون لتشغيل تلك العملية. بناء عليه، نستطيع إنتاجه من طاقة متجددة منخفضة الكلفة، كأن تكون طاقة الشمس والرياح والماء وغيرها من أنواع الكهرباء التي تطلق معدلات منخفضة جداً من الكربون، كالطاقة النووية. هكذا، فإن أي مكان يتوفر فيه ما يكفي من مياه عذبة وخيارات الكهرباء النظيفة يمثل “سوبرستار” الطاقة الهيدروجينية. تمثل تشيلي أحد الأمثلة غير المتوقعة على ذلك في أميركا الجنوبية. إذ يبدو أن البلد حقق أقل كلفة لتوليد الطاقة حتى الآن لأنه يتمتع بموارد مذهلة من طاقة الشمس والرياح والطاقة الكهرومائية، يعتبر بعضها من بين الأفضل على وجه الأرض. أطلقت تشيلي خططاً طموحة في إنتاج الهيدروجين الخضراء ترمي إلى توليد عشرة في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول 2040. في يوليو (تموز) الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي استثماراً بمليارات الدولارات في إنتاج الهيدروجين الأخضر في ناميبيا، التي تتمتع أيضاً بموارد استثنائية من طاقة الشمس والرياح. وسيستخدم الهيدروجين في صناعة الأمونيا التي ستشحن إلى أوروبا لاستخدامها في إنتاج الطاقة والغذاء. كذلك ينبغي أن توفر فرص عمل وثروة جديدة لسكان ناميبيا.
وضع 35 بلداً في أنحاء أنحاء العالم استراتيجيات رسمية للهيدروجين
في النقاشات عن تغير المناخ، يوصف الهيدروجين بأنه يشبه بـ”سكين الجيش السويسري” المتعدد الوظائف. إذ ينطوي على استخدامات محتملة في توليد الكهرباء، والنقل، والأعمال التجارية الزراعية. ولكن التطبيق الواعد للهيدروجين الأخضر، يبقى متمثلاً في الصناعة الثقيلة. يعتبر تصنيع الخرسانة والصلب والمواد الكيماوية مصدراً كبيراً للانبعاثات العالمية. ويتعذر على تلك القطاعات التي يصعب إزالة الكربون منها أن تعمل بالكهرباء بسهولة، إن أمكنها ذلك أصلاً. لذا يبدو نطاق أنواع الوقود البديلة المحتملة لديها صغيراً، وكلها تقريباً تستمر في إصدار انبعاث غازات الاحتباس الحراري. بالنسبة إلى هذه القطاعات، سيكون الهيدروجين ومشتقاته وجهة جذابة جداً حينما لا يعود إطلاق غازات الدفيئة مقبولاً أو مسموحاً. ويقدم مصنع “هيبريت” HYBRIT، مختصر عبارة “اختراق في تكنولوجيا الهيدروجين لصناعة الحديد” الأخضر، مثلاً على ما يمكن أن يبدو عليه المستقبل. إذ إن “هيبريت مصنع فولاذ في السويد نجح في إنتاج فولاذ أول من دون استخدام الوقود الأحفوري باستخدام الهيدروجين الأخضر المنتج بواسطة الطاقتين المائية والنووية. يمثل “هيبريت” نجاحاً هائلاً إلى حد أن شركة الصلب الوطنية السويدية أعلنت أنها ستستبدل بجميع أفران الصهر [التي تعمل على الوقود الأحفوري] أنظمة مماثلة تعمل بالهيدروجين الأخضر.
لعل سر نجاح الهيدروجين الأخضر يتمثل في سعره النهائي. ويتفق معظم الخبراء على أن الفترة الممتدة بين 2030 و2040، ستشهد إنتاج الهيدروجين الأخضر في كثير من الأسواق الرئيسة بسعر أقل من دولارين للكيلوغرام. صحيح أن الكلفة المذكورة أعلى بما يتراوح بين 50 و100 في المئة تقريباً من تكاليف الهيدروجين الرمادي اليوم، غير أنها تبقى مقبولة بالنسبة إلى صناعات وبلدان عدة. سبق أن أعلنت تشيلي أن في مقدورها إنتاج الهيدروجين بأقل من دولارين للكيلوغرام، وربما تصح هذه الخطوة تقريباً في غرب المملكة العربية السعودية وشمال غربي أستراليا، إذ تعكف المنطقتان على تطوير مشاريع ضخمة لإنتاج الهيدروجين والأمونيا الأخضرين. كذلك تعبر المشاريع في كندا وكولومبيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أيضاً عن توقع بنمو الطلب على الهيدروجين النظيف وانخفاض التكاليف في نهاية المطاف.
الثغرات
على غرار الحلول الأخرى كافة التي تعد بانخفاض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، يواجه الهيدروجين الأخضر عقبات كبيرة أمام التوسع السريع. تأتي العقبة الكبرى من غياب البنية التحتية المطلوبة. وتملك الولايات المتحدة نحو ألف ميل (1609.34 كيلومتراً) من خطوط أنابيب الهيدروجين، ما يعتبر حجماً ضئيلاً نسبياً. (لديها 100 ضعف من الأميال في خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، وليست إعادة استخدامها للهيدروجين عملية سهلة). كذلك تعوق الهيدروجين أيضاً مشكلة نقل الطاقة. إذ تحد نقاط الاختناق في الشبكات الكهربائية، من القدرة على إضافة الطاقة المتجددة، بل تقييد أيضاً نقلها إلى المراكز الحضرية والصناعية، إذ ينبغي أن تعمل أجهزة التحليل الكهربائي الكثيفة الاستهلاك للكهرباء.
ولأن الهيدروجين خفيف وصغير جداً، تنطوي عمليتا شحنه وتخزينه على صعوبة كبيرة. ويعرف عن جزيئات الهيدروجين أنها صغيرة وزلقة ويتطلب تخزينها تطبيق ضغوط مرتفعة للغاية أو درجات حرارة منخفضة جداً، ما يستوجب طاقة أكثر ويزيد إلى تكاليف رأس المال. للأسف قلة من الموانئ يسعها شحن الهيدروجين أو الأمونيا أو استقبالهما، وليس لدى أي منها فعلياً مرافق تصلح لتزويد السفن والقوارب والشاحنات ومحركات الإرساء بالوقود، ولا حتى الموانئ التي تلبي المتطلبات الصناعية الكبيرة. والنقص في البنية التحتية لتوليد الهيدروجين ونقله وتخزينه شائع في معظم البلاد، المتقدمة منها والنامية على حد سواء. على رغم أن بعض السياسات جعلت استثمارات البنية التحتية الجديدة واقعاً ممكناً، ستخلق القيود الحالية نقاط اختناق طوال هذا العقد وما بعده.
في سياق متصل، تشكل الكلفة تحدياً آخراً. ففي أسواق كثيرة، ما زال الهيدروجين الأخضر أغلى بأشواط من الهيدروجين الرمادي أو حتى الأزرق، وعادة ما يكون أكثر كلفة بما يتراوح بين أربعة وثمانية أضعاف. على رغم أن بعض الهيدروجين الأخضر يبشر بكلفة أقل من الهيدروجين المصنوع من الغاز الطبيعي (أزرق أو رمادي)، تفرض مثل هذه التوقعات توسعاً مادياً في الإنتاج لم يتحقق بعد. كذلك يعتقد أن توليد الطاقة المتجددة سيعمل بسعة عالية، ما ينتج كهرباء بنسبة تتخطى 75 في المئة من الوقت. ولكن الحفاظ على هذا المستوى من الجهوزية ليس ممكناً إلا في أماكن محدودة على وجه المعمورة. ويتوفر عادة المناطق التي تمتلك الطاقة الكهرومائية الوفيرة أو مزيجاً من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الوفيرة على غرار تشيلي وناميبيا وشمال غربي أستراليا، بعيداً بشكل عام من مراكز الطلب العالمية. علاوة على ذلك، تقود أزمة سلسلة التوريد والنقص الحاد في المواد إلى ارتفاع تكاليف معدات الطاقة المتجددة والمحللات الكهربائية [التي تفكك الماء إلى أكسجين وهيدروجين] على حد سواء.
أخيراً، ليس مستبعداً أن يؤدي توسيع نطاق الهيدروجين إلى أخطار مناخية وبيئية غير متوقعة. ومثلاً، هناك مشكلة التسرب، بمعنى أن يتسرب الهيدروجين إلى الهواء من مواقع الإنتاج أو الاستخدام أو خطوط الأنابيب. وسيؤدي تسرب كميات كبيرة من الهيدروجين إلى زيادة عمر بعض غازات الدفيئة، من قبيل الميثان أو أكسيد النيتروز، في الغلاف الجوي، ما يفاقم ارتفاع درجة حرارة الكوكب. إذا أخذت البلدان المختلفة في زيادة إنتاجها من الهيدروجين الأخضر بسرعة من غير فرض ضوابط تنظيمية جيدة ومراقبة صحيحة، مع العلم بأن جميع البلدان لم تعتمد هذه الإجراءات حتى اليوم، فقد يؤدي ذلك إلى تسرب كبير للهيدروجين.
ويصح التذكير أيضاً بأن الاستخدام الآمن للهيدروجين والأمونيا ممكن، بيد أن التوسع الهائل في استخدامهما حول العالم سيضيف ملايين من نقاط التسرب المحتملة، في ظل غياب الإشراف والتنظيم المناسبين. على نحو مماثل، فإن انسكاب وتسربات الوقود المعتمد على الهيدروجين (كالأمونيا) تشكل تحديات بيئية لا بد من إدارتها، على غرار الحال مع انسكابات وتسربات البنزين أو النفط الخام.
لاعبو قوة جدد
في الحقيقة، ربما تكون عميقة التداعيات الجيوسياسية التي يطرحها الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الهيدروجين الأخضر. أولاً، سيفضي ذلك إلى ظهور مزودي وقود جدد يتنافسون مع المزودين الحاليين. يملك بعض الدول البترولية موارد هيدروجين خضراء وزرقاء وافرة، لذا ستحافظ على بعض من قوتها ونفوذها في هذا المجال، لكن بلداناً جديدة ستضع أقدامها على هذه الطريق فتغير الوضع الراهن. يقع كثير من تلك البلدان في الجنوب العالمي النامي، من بينها تشيلي وكولومبيا وإندونيسيا والمغرب وناميبيا وأوروغواي، وإنتاج الطاقة النظيفة ربما يجلب لها الثروة على غرار ما كانت الحال مع الدول النفطية في الماضي. وطرحت دول مستهلكة للوقود الأحفوري والمواد الكيماوية حالياً، كالهند، برامج محلية طموحة لإنتاج الهيدروجين الأخضر، أولاً لتصنيع الأسمدة ثم المساعدة في إزالة الكربون من صناعتها الثقيلة. كذلك سيتنافس اللاعبون الكبار في سوق الهيدروجين الأخضر على حصة السوق، مع شركات ناشئة في صناعة الهيدروجين الأزرق، بما في ذلك كندا ونيجيريا والولايات المتحدة. وسوف يتنافسون على المشترين الرئيسين كالصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وطبعاً الاتحاد الأوروبي. تتجلى هذه المعركة في كسب المشترين والاستيلاء على الأسواق، في السيل الأخير من الاتفاقات الثنائية التي تشمل اتفاق دولتين على تخصيص إنتاج للهيدروجين والأمونيا وشرائهما. وقد وقعت اليابان وتشيلي صفقة من هذا النوع. وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي وناميبيا. لكن هذه الدول ليست الوحيدة في الساحة، فهنالك أكثر من 80 اتفاقاً ثنائياً يشمل عشرات الدول، في شأن دعم إنتاج الهيدروجين وتجارته والمنتجات المشتقة منه.
مع تلاقي قوى الابتكار التكنولوجي والجغرافيا السياسية والرغبة في النمو الاقتصادي والموارد الطبيعية المتنوعة، يصار إلى تطوير سياسات جديدة تجمع بين خير المناخ والابتكار والتجارة. يبدو هذا الدمج للسياسة جلياً في اليابان. إذ تعكف البنوك في البلاد على تمويل إنتاج الهيدروجين الأخضر في أستراليا وتشيلي، ما سيوفر وقوداً نظيفاً لليابان لاستخدامه في موانئها ومحطات الطاقة والمواقع الصناعية فيها. وفي اليابان، تشجع الحوافز الحكومية إنتاج الطاقة النظيفة، والنقل النظيف، والتصنيع النظيف، من ثم التغلب على الكلفة الاستهلاكية المباشرة من الهيدروجين النظيف. في الواقع، يساعد اتباع نهج شامل للسياسة على شاكلة النهج الياباني في التغلب على المعضلة الكلاسيكية المتمثلة في “الدجاجة والبيضة”. باختصار، تؤسس اليابان “الدجاج”، إذ أرست بنية لإنتاج الهيدروجين والوقود النظيف حول العالم وسوقاً لشراء المنتجات. بالتالي يترتب على ذلك درء أخطار إنتاج الهيدروجين الأخضر من طريق سياسة الاكتتاب والسياسة الصناعية وتطوير البنية التحتية. في صميم هذه الصفقات، ثمة اتفاقات طويلة الأجل لأخذ الهيدروجين بأسعار مضمونة (ثابتة). وهنالك دول أخرى كثيرة تسير على النهج نفسه، من بينها سنغافورة وكوريا الجنوبية وبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وبطبيعة الحال، دخلت الولايات المتحدة أيضاً المعترك الهيدروجيني. وقد خصص “قانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية” Infrastructure Investment and Jobs Act الذي أقره الكونغرس الأميركي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، ثمانية مليارات دولار لبناء وتشغيل أربعة مراكز لإنتاج الهيدروجين وتخزينه وشحنه واستخدامه. كذلك كرس الكونغرس مليارات الدولارات لتوليد الطاقة المتجددة الجديدة وخطوط النقل والبنية التحتية للموانئ. ولكن ليس هذا سوى إجراء واحد من باقة إجراءات في هذا المجال. إذ أصدر الكونغرس بعد ذلك قانون خفض التضخم في أغسطس (آب) 2022. تحديداً، أنشأ القانون فئة جديدة من الإعفاءات الضريبية، معروفة باسم “في 45” (45V)، توفر إعفاءات ضريبية لإنتاج الهيدروجين النظيف. ويرتبط هذا الخصم الضريبي الجديد تلقائياً بكثافة الكربون في الأنواع المختلفة من الإنتاج، إذ يحظى أنظف إنتاج للهيدروجين بثلاثة دولارات للكيلوغرام، ما يقلص الكلفة الإجمالية للهيدروجين الأخضر بشكل كبير. ستنعم أفضل مشاريع طاقة الشمس والرياح والطاقة المائية والنووية في الولايات المتحدة بحافز الدفع المباشر، ما يفسح في المجال أمام الوصول إلى الأسواق.
في سياق مماثل، تتميز الصفقة الخضراء الأوروبية European Green Deal التي تشكل مسودة “الجزرة والعصا” أو “الثواب والعقاب” التي وضعتها المفوضية الأوروبية بغية الوفاء بأهداف مناخية أكثر صرامة، بمنح وإعفاءات جمركية وإعانات في إنتاج الهيدروجين الأخضر، ما يوفر حوافز تقدر بنحو 500 مليار دولار. ويلفت إلى أن الاهتمام الأوروبي بالهيدروجين الأخضر تعاظم بعد غزو أوكرانيا، إذ تتطلع حكومات كثيرة إلى الهيدروجين الأخضر بوصفه بديلاً متوسط الأجل للغاز الروسي مع الحفاظ على أهدافها المناخية في الوقت عينه. من نواح كثيرة، يشجع هذا التدفق من الاستثمار الحكومي الاستثمار الخاص، ويشبه نوع السياسات والصفقات الثنائية التي شوهدت في الأيام الأولى لإنتاج الغاز الطبيعي السائل وشحنه قبل 20 عاماً. آنذاك، قدمت الحكومات التزامات مماثلة طويلة الأجل بغية تشجيع الاستثمارات الكبيرة لرأس المال الخاص في البنية التحتية للغاز الطبيعي السائل.
في ضوء الدعم الحكومي واستثمارات القطاع الخاص، من السهل أن نكون متفائلين بشأن مسار الهيدروجين الأخضر. ويمكن للمدافعين عن مصلحة المناخ أن يشعروا بالرضا لأن انخفاض تكاليف الإنتاج لا بد من أن تجعل تحقيق أهداف المناخ للعام 2050 أسهل مما كانته قبل خمس سنوات.
في المقابل، ثمة معنيين يصبون تركيزهم على أمن الطاقة فيجدون سبلاً في تنويع إمدادات الوقود وخفض قوة الجهات الفاعلة الجيوسياسية الفردية. كذلك تنظر المنظمات العمالية إلى الوظائف. وتنظر البنوك إلى العائدات. ويتحين المهتمون بالمساواة العالمية الفرصة كي يعملوا على تقليص الفجوة بين شمال الكرة الأرضية والجنوب العالمي.
وكخلاصة، فيما ينمو سوق الطاقة الجديد هذا [الهيدروجين الأخضر وأشكال الطاقة النظيفة المتصلة به]، فإنه يستلزم عناية واهتمام. نظرياً، لا فارق بين النظرية والتطبيق. أما في الممارسة فالاختلاف موجود. على رغم أن الرحلة إلى الهيدروجين الأخضر ستكون وعرة، يبقى للتفاؤل ما يبرره، وكذلك الضجيج في شأنه.
أس. جوليو فريدمان كبير العلماء في “كاربون دايركت” Carbon Direct، شركة رائدة في إدارة الكربون، وزميل غير مقيم في “مركز سياسة الطاقة العالمية”Center on Global Energy Policy في “كلية الشؤون الدولية والعامة” في “جامعة كولومبيا”. شغل منصب النائب الأول لمساعد وزير مكتب الطاقة الأحفورية في وزارة الطاقة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما وكبير تقنيي الطاقة في “مختبر لورانس ليفرمور الوطني” Lawrence Livermore National Lab
-إندبندنت عربية-
Discussion about this post