العالم الاقتصادي- ولـيد أبـو السـل
لم تستطع الصناعة في الوطن العربي الخروج من معادلة كونها صناعة توسم “بالتبعية” أو ما يعرف “بالاقتصاد التابع” الذي يعتمد على الاستيراد بشكل أكبر من اعتماده على التصدير, بسبب عجز قدرته على تحقيق الاكتفاء الذاتي من تلك الصناعة الإستراتيجية والاختصار على الصناعة الخفيفة المكررة، وقد تستثني من هذا الواقع سورية البلد الذي وهبه الله موقعاً جغرافياً هاماً تتوسطه القارات الثلاث مما مكنه لان يلعب دوراً مختلفاً في التقدم الصناعي للمنطقة.
وتعد كل من دمشق وحلب من أكثر المدن شهرة في توطين صناعة الغزل والنسيج والصناعة اليدوية, فحلب التي كانت إلى وقت قصير تتربع على مكان الصدارة في قائمة المدن الصناعية في الوطن العربي نظراً لاتساع وكثرة المنشآت الصناعية فيها وخاصة منشآت صناعة النسيج والصابون والزعتر والحلويات العربية والمنتجات النحاسية اليدوية والحرف التقليدية الأخرى، إلا إن الصناعة السورية قد مرت كغيرها بنكسات أضرت بها ولعل أبرزها فترة الاحتلال الفرنسي للبلاد حينما خرجت الكثير من منشآتها عن الخدمة وتبعثرت اليد العاملة الخبيرة فيها بعد أن وصل عددها إلى 70 ألف عامل آنذاك، وصولاً إلى عام 2011 حيث شهدت البلاد حرباًَ جائرة عليها امتدت أكثر من سبع سنوات أصابت فيها البنية التحتية الصناعية في الصميم وسرقت الكثير من معاملها الأمر الذي دفع باليد العاملة إلى الهجرة إلى الدول المجاورة، إلا أن مرحلة جديدة قد بدأت بعد هذه الحرب أخذت فيها الصناعة السورية باسترداد عافيتها بعد أن سخرّت لها مستلزمات النهوض من جديد.
وللوقوف على حال الصناعة السورية بعد الحرب استطلعت “العالم الاقتصادي” آراء المعنيين والصناعيين فكان لنا هذه اللقاءات:
عودة الاستثمارات واليد العاملة المهاجرة
اعتبر نائب رئس غرفة الصناعة في دمشق وريفها السيد محمد كامل السحار غياب الاستثمارات ورؤوس الأموال السورية واليد العاملة الخبيرة واحدة من الأسباب التي تعيق تعافي الصناعة السورية، ولهذا فان الحكومة السورية جادة في خلق مناخ استثماري جديد يستقطب تلك الأموال واليد العاملة، وأن هنالك متابعات مباشرة من قبل رئيس الحكومة بخصوص هذا الموضوع، ونعمل معاً على تذليل كل ما شأنه إعاقة تعافي الصناعة السورية والتي أرى أنها ستعود من جديد وتسترد عافيتها، وهذا ما لمسته من خلال لقاءاتي مع الأخوة الصناعيين في سورية وخارجها، وعن إصرارهم إلى العودة والمشاركة في إعادة بناء سورية الحديثة، وقال: إن الجميع مهتم رغم الفرص الاستثمارية الكبيرة التي حصل عليها الصناعي السوري في الدول الأخرى، بالعودة إلى الوطن للمشاركة في عملية إعادة الأعمار.
وتمنى السحار أن يتم التفاهم في وقت قريب على فتح المعبر الحدودي مع الأردن لتسهيل الحركة التجارية مع دول الجوار وتحرير التبادل التجاري معها، وفتح السوق السورية وعقد الاتفاقيات الجماعية والثنائية، مؤكداً على ضرورة رفع القوة الشرائية للمواطن السوري حتى يعود ويتمكن من طلب المنتجات بكل يسر وسهولة، ودعا إلى التوسع في بناء المناطق الصناعية لكي تتناسب مع ما قد تشهده سورية من تطور صناعي (حسب توقعه) وقال: إن كل المؤشرات والمعطيات التي تم التوصل لها، تؤكد بأن هنالك قفزة نوعية في مجال الصناعة السورية من حيث الكم والنوع, وهذا بفضل الاطلاع على أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا الصناعة في الدول الصناعية الكبرى وأضاف لقد اكتسب رجل الأعمال السوري كل الخبرات اللازمة لإعادة تطوير صناعته بعد انتهاء الأزمة في بلاده لا بل والتوسع بها بعد أن أطلع على كل ما هو جديد في هذا العام الذي يتطور باطراد.
200 مليار دولار حجم الخسائر
كان لرجل الأعمال السيد أوس أحمد دغرور مدير مؤسسة دغرور للبناء السريع والتجارة العامة، رأي مختلف فقد حملّ اللجان الحكومية المشكلة لتسهيل تفعيل حركة الاستيراد والتصدير ومنح التراخيص وتسعير المواد وتقديم التسهيلات للمنشآت الصناعية، المسؤولية في عملية تأخر حركة تعافي الصناعة لجهة القرارات “غير المدروسة” التي تصدر عنها والتي لا تلامس الواقع الصناعي الحقيقي والتي غالباً ما تكون قراراتها ذات أثر سلبي على عملية عودة الحركة الصناعية لأسباب نجهلها, وبالتالي فإن الأجدى بتلك اللجان أن تسهم أو تسرع في عملية التعافي لا أن تعمل على تبطئتها بقصد أو غير قصد .
وأكد دغرور أن الصناعة في مرحلة حرجة لذا يتوجب الإسراع في اتخاذ الإجراءات القوية والجريئة لإنقاذ الصناعة وتقديم كل التسهيلات من حيث تقديم العروض وإعادة تأهيل المصانع والعمالة وتأمين فرص التصدير وتأمين المستلزمات اللازمة لدوران العجلة الصناعية وتابع يقول: إن من أهم المعوقات أيضا هي مقاطعة البنوك العالمية للتعامل مع رجال الأعمال السوريين ناهيك عن الحصار الاقتصادي الجائر على سورية سواء كان عربياً أو أجنبياً.
واعتبر السيد دغرور أن إقامة مثل هذه الفعاليات الاقتصادية الكبرى لمعرض دمشق الدولي فرصة حقيقية وغنية يجب استثمارها لجهة الاطلاع على أحدث التقنيات المستخدمة في عمليات البناء ولجهة ممثلي الشركات الصناعية العربية والأجنبية، ولجهة البحث في مشاريع إستراتيجية مشتركة فيها خدمة لسورية وعملية إعادة الأعمار فيها، وقدر دغرور قيمة الأضرار التي أصابت القطاع الصناعي فقط بـ 200 مليار دولار.
وقال السيد دغرور: إن غياب المناخ الاستثماري المناسب سيدفع بالعديد من المشاريع الصناعية إلى التوقف من جديد كما حصل قبل الأزمة حيث تراجع عدد المشاريع الصناعية المنفذة سنوياً من 2251 مشروعاً في عام 2006 إلى 1618 مشروعا في عام 2007، وإلى 1658 مشروعاً في عام 2008، وإلى 1476 مشروعاً في عام 2009، وصولاً إلى 1408 مشروعاً في عام 2010، بنسبة تراجع وصلت الى نحو 40 % بين أعوام 2006 الى 2010، واعتبر دغرور غياب البرنامج المتكامل لتطوير الصناعة السورية وتحسين قدراتها التنافسية سيزيد من الاستمرار في خروج العديد من المنشآت الصناعية الأخرى عن العمل.
800 ألف عامل خسروا أعمالهم
اعتبر السيد عدنان كلاوي صاحب معمل كلاوي لمواد البناء والقرميد أن هجرة اليد العاملة باتت هي التحدي الأكبر في تباطؤ عملية تعافي الصناعة السورية وخصوصاً الفئة الشبابية المنتجة بعد حركة الهجرة التي شهدتها البلاد خلال فترة الحرب الظالمة عليها، داعياً الشباب السوري في الوقت ذاته إلى العودة إلى أرض الوطن لكي يسهموا في عملية إعادة أعمار بلدهم, وقال: “إن سورية بخير وأن الأيام القادمة ستكون أفضل على الإطلاق” مؤكداً أن لا أحداً يستطيع بناء سورية غير أبنائها، وقدر كلاوي عدد العمال الذين خسروا عملهم جراء توقف معامل القطاع الخاص الصناعي فقط بـ800 ألف عامل منهم 200 ألف مسجلين في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أو ما يعرف بالتأمينات الاجتماعية.
قلة عقود التصدير
اعتبر عمر حجازي صاحب معامل ” نيوبارك ” للألبان والاجبان أن قلة عقود التصدير الخارجية تشكل واحدة من أسباب عدم تعافي الصناعة السورية في حال بقيت العقوبات الدولية مفروضة عليها إلا انه عاد واستدرك قائلاً: لا خوف على الصناعي السوري فهو مبدع ويستطيع خلق الفرص والتوسع في عمله إلا أن الضغوط الخارجية التي تمارس على البلاد تشكل عائقاً لابد من إزالته أو التغلب عليه أو إيجاد الحلول البديلة مشيراً إلى أن المنتجات السورية منتجات لها سمعتها وقد وصلت إلى أرقى الأسواق الأوربية، ونحن على استعداد للتوسع والمشاركة بشكل جدي وفعال أكثر في تطوير الصناعة وفق احدث المواصفات العالمية ، وان اليد العاملة السورية استطاعت أن تثبت بأنها الأفضل والأجود في حال توفرت لها كل مقومات النجاح, ودعا حجازي إلى إنشاء صندوق للدعم الصناعي ومنح الصناعيين قروضاً لإعادة ترميم مصانعهم وجلب معدات وآلات جديدة والمباشرة بالإنتاج لسد حاجة السوق.
ارتفاع أجور النقل
اعتبر السيد مصطفي العلي صاحب شركة استيراد وتصدير ومعامل لتحضير المواد الغذائية أن ارتفاع أجور النقل احد معوقات الصناعة لكنه أكد في الوقت نفسه أن هذا الأمر وسواه من المعوقات بدأت بالتلاشي بعد قرب الحرب على نهاياتها، وقال لقد كانت أجور النقل وتوفير المواد الأولية واحدة من أصعب المعوقات الصناعية وخصوصاً في المناطق الساخنة, على عكس ما قد يحصل خلال فترة معرض دمشق الدولي حيث تعهد المصدرون السوريون بنقل المنتجات السورية إلى أية بقعة في العالم بشكل مجاني ودون دفع أيه رسوم عليها .
وعن معرض دمشق الدولي قال العلي: إن المعرض في دورته الحالية محطة مهمة في طريق إطلاق قطار الصناعة السورية لما شهدته هذه الدورة من حضور كبير وخصوصاً من قبل ممثلين عن الشركات الأجنبية والعربية الذين حضروا لإبرام عقود تجارية وإقامة شركات إستراتيجية تفيد الطرفين، وأضاف: لقد التقيت بممثلين عن أكثر من 25 دولة و50 شركة وقد عقدنا عدة لقاءات مشتركة أثمر البعض منها على التواصل إلى تفاهمات وتوقيع عقود تجارية مشتركة للاستيراد والتصــدير “وأعتقد أننا قد استطعنا أن نعيد القطار إلى سكته تأهباً لإعادة الانطلاق من جديد وبقوة اكبر هذه المرة “.
هجرة الصناعيين أضر بالصناعة
اعتبر محمد معدنلي صاحب شركة معدنلي لتغليف المنتجات الزراعية والغذائية أن الآثار المباشرة للازمة في سورية على الصناعة أصبحت من الماضي وقال: لقد تجاوزنا مرحلة الخطر في الأزمة وتداعياتها وما علينا سوى الانطلاق من جديد داعياً إلى أطلاق حملة وطنية وشعبية لدعم الصناعة السورية, كما دعا الحكومة إلى رفع القوة الشرائية لدى المواطن لتحريك السوق الداخلية .
وتحدث معدنلي عن هجرة الصناعيين السوريين إلى كل من مصر والأردن وتركيا والسعودية، وقال: إن 60 % من رجال الأعمال والصناعيين السوريين قد خرجوا من سورية بسبب الظروف الأمنية السيئة، وان ما قيمته 30 مليار دولار هي حجم المبالغ التي أخرجوها معهم، وان نحو 3 مليار دولار هي حصة مصر وحدها من تلك الأموال وربما يزيد حصة الأردن خلال عام 2012 وحده فقط (وكل ذلك حسب تقارير دولية ومحلية), فيما قدرت تلك التقارير أن ما قيمته 15 إلى 20 مليار دولار كانت حصة لبنان من أموال السوريين المهاجرة.
ولفت معدنلي إلى أمر هام يتعلق بتراجع الإنتاج الزراعي وخصوصاً المحاصيل الإستراتيجية خلال فترة الأزمة، وقال: إن تلك المحاصيل هي المواد الأولية للعديد من المعامل كمعامل القطن والزيتون والبقوليات والقمح، موضحاً أن كمية القطن التي تمت الاستفادة منها خلال النصف الأول من عام 2015 لم تصل إلى أكثر من 4 ألاف طن فقط وإلى 42 ألف طن في عام 2014، هذا إضافة إلى انخفاض أنتاج الزيتون والفستق الحلبي والخضراوات والحليب.
وأشار معدنلي إلى انخفاض الناتج الإجمالي المحلي للقطاع الصناعي ليصل خلال النصف الأول إلى 13 مليار ليرة سورية في عام 2015 فيما وصل إلى 48 مليار ليرة سورية في عام 2014، إلى أنه كان قد سجل تراجعاً كبيراً في عام 2010 حيث وصل إلى 61 مليار وإلى 59 مليار في عام 2011 و49 مليار في عام 2012 و56 مليار عام 2013.
Discussion about this post