عهد غزالة- العالم الاقتصادي
الكربوقراطية هي منظومة متماسكة من أشخاص معدودين يسمون النخبة الجديدة أو قراصنة الاقتصاد كما سماهم “جون بركرز” في كتابه “القاتل الاقتصادي”، لهم أهداف مشتركة أهمها بناء امبراطورية عالمية تخضع لسيطرتهم، يشغلون عضوية مجالس الشركات الكبرى والمناصب الحكومية ويتنقلون بسهولة بينها، ويستخدمون المنظمات المالية الدولية لخلق أوضاع تخضع الأمم الأخرى لاحتكار هذه الشركات التي تدير الحكومات والمصارف الكبيرة، بحيث تنظر هذه المنظومة إلى الدول كأنها عنقوداً من العنب، تختار ما يحلو لها منه، فهي تحتفظ بإنكلترا.. تأكل الصين.. تلقي بإندونيسيا.
تدير هذه النخبة الشركات وفق نظام إقطاعي تجاري يسود العالم، كما يتاجرون من خلال شركاتهم بالرقيق بشكل جديد من خلال اصطياد العمالة الفقيرة وتشغيلها بأبخس الأجور، حيث يبنون لها المصانع ويديرونها من قبل أعوانهم المحليين، ومن ثم يبيعون المنتجات إلى العالم بالأسعار التي يحددونها، بحيث يقوم مفهوم التجارة الجديدة للرقيق على إيديولوجية مفادها أن الحصول على دولار أفضل من لاشيء فيستغلون العاطلين عن العمل الذين هم أصبحوا أساس رفاهيتهم ولاغنى عنهم لاستمرار بقائهم.
مكنمارا.. رأس الحربة
لدى هذه الشركات القوة لكن ليس لديها الموارد الطبيعية التي تكفيها، تؤمن بالميكافيلية، “الغاية تبرر الوسيلة” حكمتها غير القابلة للجدال، استطاعت هذه النخبة إقناع أذرعها المؤسسات المالية بأن مشروعات القطاع الخاص أكثر جدوى من القطاعات التي تقوم الدولة بإدارتها، وأن الخصخصة هي التي تؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي، وأصبحت خصخصة القطاعات الاستراتيجية التي تديرها الدولة هي الوصفة الدولية لاقتصاد الدول، ومن اتبع هذه الوصفة وقع في فخ هذه الشركات وغرق في الجهل والفقر والجريمة، ولكي تستطيع الكربوقراطية إقناع العالم بنظامها، سيطرت على قطاع التعليم من خلال تقديم الدعم المادي الهائل للجامعات وكوادرها الذين يقومون بترسيخ أن هذا النظام هو النموذج الاقتصادي الأفضل للدول في عقول الطلبة، فتعتمده بذلك أفضل عقول العالم، بحيث تسمي هذه الشركات مشاريعها التي تقدمها للدول النامية، بأنها معجزات النمو الاقتصادي، عبر تلفيق معدلات للنمو غير واقعية، وإن أدرك أحد كوادر هذه الجامعات أن هذا النظام الرأسمالي الجديد يعمل على تنمية اقتصاد يسفر عن إثراء القلة الذين يتربعون فوق قمة الهرم الأكثر ثراءً في العالم بينما لا يقدم لأولئك المطمورين في القاع إلا مزيداً من الفقر والتشرذم، فإنه سيفقد إما وظيفته أو حياته، هذا فضلاً عن سيطرتها على جميع وسائل الإعلام ومؤسساته لتصل الحقيقة إلى شعوب العالم كما تريدها هي.
إذا تمحصنا في هوية هؤلاء النخبة فهم إما من الجنسية الأمريكية أو الإسرائيلية أو البريطانية وبالتالي تقوم هذه النخبة الكربوقراطية من خلال إدارة الشركات والتنقل بين السلطات الحكومية بالعمل على بسط سيطرة الولايات المتحدة على ثروات العالم الطبيعية وعلى التجارة العالمية وعلى المصارف العالمية وأنظمتها، كون أمريكا تعتبر نفسها الرئيس التنفيذي للامبراطورية العالمية، خصوصاً أنها تعتمد على الدولار الذي تعتبره أكثر تداولاً عالمياً، وأن مؤسسة صك العملة في الولايات المتحدة لها حق طبع الدولارات وبالتالي تقديم القروض للدول، وهي تعلم تماماً عدم قدرة تلك الدول على سدادها وذلك لبسط نفوذها.
إن سهولة تنقل رؤساء الشركات (القراصنة) دون الفصل بين السلطات المختلفة يسهل من تنفيذ مهامها، فـ”روبرت مكنمارا” قبل أن يصبح رئيساً للبنك الدولي كان رئيساً لشركة “فورد” ثم أصبح وزيراً للدفاع في عهد الرئيس الأمريكي جون كندي.
إن مكنمارا هو من أوجد سلالة جديدة من رؤساء مجالس الإدارات الذين من المفترض أن يكونوا رأس الحربة نحو الإمبراطورية العالمية، وهو الذي أرسى قواعد التنقل بين السلطات المختلفة المكونة لمجموعة الكربوقراطية لتتناغم مع من يأتي من بعده كـ”جورج شولتز” الذي كان وزيراً للخزانة في عهد نيكسون، وكان قبل ذلك رئيس شركة بكتل للهندسة والبناء، ثم أصبح وزيراً للخارجية في عهد ريغان وريتشارد تشيني الذي أسس شركات زايا للبترول ثم أصبح رئيساً لـ”CIA” في عهد “فورد” ثم وزيراً للدفاع في عهد جورج بوش ثم رئيساً لشركة “هوليبيرنتون”.
تستخدم النخبة أساليب عدة للسيطرة على الدول النامية، بداية تطرح مشروعات اقتصادية على حكومات هذه الدول ترسخ التبعية الاقتصادية والولاء السياسي، بحجة أن هذه المشروعات ستحقق النمو الاقتصادي لهم وتقدم لهم القروض لتنفيذ تلك المشروعات، فيقوم قراصنة الاقتصاد بإقناع قادة هذه الدول أن يصبحوا جزءاً من شبكة واسعة تروج لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية فيصبح هؤلاء القادة مكبلين بسلسلة من الديون تضمن ولاءهم، حيث يطلب القراصنة شروطهم مقابل دعمهم في البقاء في الحكم، ومنها السماح للشركات الأمريكية بالتنقيب عن الذهب الأسود أو لشركات بناء البنية التحتية كالطرق والصرف الصحي والكهرباء والمطارات….الخ، فتدفع القروض التي تم استدانتها إلى هذه الشركات، فتكون حركة الأموال من الكربوقراطية إلى الكربوقراطية لكن دون فوائد تدفع على الديون حيث تدفعها الدول المستدينة التي سلب استقلالها، من خلال فقدان استقلالها في التصويت في الأمم المتحدة، وعدم قدرتها على اتخاذ القرارات التي تخص اقتصادها بمفردها.
إن فشل الكربوقراطيين في إقناع القادة ستتولى فصيلة الثعالب أمرهم وتقوم بتصفيتهم بحوادث عنيفة كما بينها الصحفي الإسرائيلي رونين بريغمان في كتابه (بادر واقتل أولاً)، وإن فشلت هذه الفصيلة في تحقيق أهدافها ستعود النماذج القديمة للظهور، أي الحروب المباشرة ستكون هي الأسلوب الأخير.
البداية من إيران وغواتيمالا
فإذا عدنا لبدايات هذه المنظومة نجد أنها بدأت في إيران حيث وعي رئيس الوزراء الإيراني محمد رضا مصدق في الخمسينيات لعبة شركات البترول وفشل القراصة في إقناعه فأمم أصول البترول، فجن جنون بريطانيا ولجأت إلى أمريكا وكانت التهمة جاهزة على أنه شيوعي، والحل كان على يد “كيرميت روزفلت” حفيد تيودور روزفلت حيث استطاع تنظيم مظاهرات وأعمال شغب بمهارة أدت إلى إسقاط مصدق واستبدلته بالشاه، وبذلك وضع روزفلت الاستراتيجية الجديدة لأمريكا في احتلال الشعوب.
بعد هذا النجاح وجدت الكربوقراطية أن أمريكا تستطيع تحقيق حلمها كما تخيلها نيكسون، وهي الطريقة الوحيدة لقهر الاتحاد السوفياتي دون اللجوء للحرب النووية، وهنا بدأ القراصنة بتنمية العلاقات التكاملية بين الحكومات والشركات المتعددة الجنسيات من خلال تمويل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذين يدعما تلك الشركات.
ولحق بمصدق في تلك الفترة تقريباً آربنز رئيس غواتيمالا عام 1954 حيث واجهت غواتيمالا مصيراً أشد عنفاً، كل ذلك لأن آربنز لم يقتنع بنظامهم الرأسمالي، وفكر بنشر العدالة الحقيقية في غواتيمالا من خلال نظام مغاير لنظامهم؛ حيث قام بإصلاح الأراضي، فنظمت النخبة من خلال CIA تهمة أنه محكوم من قبل السوفييت وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، فضُربت الدولة بالقنابل وأطاحت به واستبدلته بدكتاتور يدعى “كارلوس كاستيلوارماس” لتبقى الأراضي لشركة “يونايتد فروت” (المتحدة للفواكه) فاغتيل آربنز سياسياً واقتصادياً.
إندونيسيا.. الفريسة التالية
ثم كانت الفريسة التالية إندونيسيا حيث طرح القراصنة على رئيسها سوهارتو مشروع مد أندونيسيا بالكهرباء وبذات الوقت عملت على مد كل الصناعات الأمريكية المرتبطة بصناعة البترول كشركات الملاحة والموانئ وخطوط الأنابيب وشركات التعمير والبناء بكل ما تحتاجه هذه الشركات بالكهرباء، فكانت سياسة القراصنة تعمل لتأمين مستقبل شركاتها لفترة لا تقل عن ربع قرن، وذلك كله بحجة مساعدة الدول على الخروج من حيز الاقتصاد المتخلف لتأخذ مكانتها في العالم المعاصر، ولو كان هدفها فعلاً كذلك لاختارت مشروع تنقية مياه إندونيسيا التي تعاني من قذارة مياهها، حيث يموت الكثير بسببها كل عام لاسيما الرضع .
إن نجاح استراتيجية أمريكا في إندونيسيا كان من وجهة نظر القراصنة أنه سيحدث أثراً إيجابياً على العالم الإسلامي خاصة في الشرق الأوسط الذي كانت الكربوقراطية تفكر بإعادة تشكيل تاريخه بعد أن ذُلت أمريكا في كوريا وفيتنام.
اصطياد السعودية بقمامة الأغنام
كانت استراتيجية أمريكا في تلك الفترة منع سقوط بلد تلو الآخر بالولاء للاتحاد السوفياتي ولنظامه وآيديولوجياته، كما أن تزايد الاعتماد على الذهب الأسود وارتفاع أهميته بالنسبة للدول الصناعية جعل القراصنة يضعون دخول شركات تكرير النفط إلى الدول المنتجة على هرم أهدافها لارتباط باقي الصناعات بها، إلا أن استغلال الكربوقراطيين من خلال شركات تكرير النفط هذه للدول المنتجة، حيث تقوم بشراء النفط الخام بأبخس الأسعار وإعادة بيعه بأسعار مضاعفة، دفع الدول الكبرى المنتجة للنفط (السعودية- إيران– العراق- فنزويلا- الكويت) لتأسيس منظمة الأوبك عام 1960 وظهرت أهمية هذه المنظمة عام 1973 حين اتخذت موقفاً موحداً من خلال التحكم في إنتاج البترول، إلا أن ذلك لم يزد الكربوقراطيين إلا قوة ولو أنها صدمت في البداية، حيث اتحدت أعمدتها الثلاثة أكثر من أي وقت مضى؛ فالحظر الذي اتخذته دول المنظمة رفع من مكانة السعودية كلاعب أساسي في عالم السياسة وجعل واشنطن تدرك أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، مما دفع قراصنة الاقتصاد إلى البحث عن سبل استعادة أمريكا لأموالها المدفوعة في البترول مرة أخرى من خلال استغلال النقص في الهياكل الإدارية في السعودية التي تمكنها من إدارة ثروتها الكبيرة، حيث امتلأت خزائن السعودية بمليارات الدولارات التي كانت نقمة عليها، وأصبحت دولة استهلاكية انغمست في الاستهلاك، وبالتالي قدمت هذه النزعة حلاً لأمريكا من مخاوفها بتكرار أزمة حظر البترول مستقبلاً.
قام الكربوقراطيين بالتفاوض مع السعودية وإنشاء وكالة التنمية (JECOR) وهي اللجنة الأمريكية السعودية للتعاون الاقتصادي، فابتدعت مفهوماً جديداً في برامج تقديم المساعدات الأجنبية، بحيث تعتمد على الأموال السعودية لتمويل الشركات الأمريكية في تقديم المساعدة التقنية والمعدات والتدريبات العسكرية لبناء السعودية.
وقد أنفق الكربوقراطيين ملايين الدولارات خلال 25 عاماً، حيث لم يكن للكونغرس رقابة على ذلك، كون الأموال لم تكن أموال حكومية أمريكية، وقد وصفت هذه الاتفاقية بأنها الأغرب من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة في بلدٍ نامٍ، حيث ابتكر القراصنة في هذه الاتفاقية وسائل جديدة لتوسيع امبراطورية الكربوقراطية بدلاً من الطرق القديمة، فقد قدم القراصنة أبرع السيناريوهات لتبرير استنزاف ملايين الدولارات من اقتصاد السعودية شريطة إدراج شركات الهندسة والبناء الأمريكية، حيث لم يسلك القراصنة أسلوب إثقال الدولة بالديون، وإنما إيجاد طرق لإعادة أكبر نسبة من الدولارات المدفوعة في البترول مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، وبالتالي لم يكن سير الأموال من الكربوقراطية الى الكربوقراطية إنما من السعودية إلى الكربوقراطية، وذلك عن طريق جعل اقتصاد السعودية أكثر تشابكاً وخضوعاً للولايات المتحدة، فباستغلال اقتصاد السعودية سيزداد تقليدها لأسلوب أمريكا وبالتالي زيادة ميلها وتبعيتها لنظامها أيضاً، وكان المفتاح لدخول السعودية هو الأغنام التي كانت تجوب شوارعها من أجل التخلص من القمامة كون الشعب السعودي لا يقوم بمثل هذه الأعمال.
استغل القراصنة هذه الناحية وطرحوا على السعودية استقدام شركات أمريكية لجمع القمامة والتخلص منها بطرق تكنولوجية حديثة مما جعل السعودية فخورة بهذه النقلة الحضارية، ثم تم بعد ذلك الانتقال إلى بناء مجمعات لصناعة البتروكيماويات في الصحراء تحيط بها مجمعات عمرانية وصناعية ضخمة، كما رافق ذلك إقامة محطات توليد كهرباء وخطوط نقل وتوزيع الطاقة والطرق السريعة وأنابيب بترول وشركات اتصالات وشبكات مواصلات وموانئ، مما دفع بعض زعماء العالم بطلب مساعدة أمريكا كي تقدم لهم خططاً مشابهة للنهوض ببلادهم، وبما أنهم ليسوا من الأوبك سوف يستدينون من البنك الدولي، وبذلك عاد القراصنة إلى أسلوبهم القديم حيث أثقل كاهل هذه الدول بالديون وبالتالي فقدان استقلالها.
وقد سمى القراصنة السعودية البقرة التي يمكن حلبها حتى سن التقاعد نتيجة العقود الآجلة التي أبرمت معها لسنوات طويلة، وبالتالي أصبح حظر البترول خيراً للكربوقراطية ولأمريكا التي أصبحت ترنو إلى العراق وإيران ليحذوا حذو السعودية، فقد ضمنت أمريكا من خلال اتفاقيتها مع السعودية سد نقص البترول في حال قيام إيران والعراق وفنزويلا بالتهديد بحظر البترول عنها، بل جعلت هذه الدول ترتدع حتى عن التفكير بذلك، مقابل دعم آل سعود في الحكم وعسكرياً عند الضرورة والشرط الأدهى وضع دخل السعودية من البترول لدى الحكومة الأمريكية مقابل حماية أمريكا لأمنها، فبذلك تدفع عوائد السعودية مباشرة لشركات الكربوقراطيين.
من أهم القراصنة الذين أقنعوا السعودية بهذه الاتفاقية هنري كيسنجر، الذي ذكر العائلة المالكة بما حصل لجارتها إيران عندما حاول مصدق طرد شركات البترول البريطانية، فليس لديهم خيارات أخرى، فكانت السعودية مثالاً للطريقة المبتكرة للتحكم في البلدان حيث أصبحت سلاحاً جديداً بيد الكربوقراطية، وبدأت الولايات المتحدة باستخدام السعودية للعب دور كبير في تمويل الإرهاب العالمي وتمويل ابن لادن لمواجهة الاتحاد السوفياتي فجعلتها بؤرة لتمويل الإرهاب.
هذا ما جرى في الإكوادور وبنما
لم تكن أمريكا الجنوبية بعيدة عن مطامع الكربوقراطية، فكانت الإكوادور الفريسة المنتظرة، بعد فشل الكربوقراطية في إسقاط تشافيز في فنزويلا عام 1988 حيث استحضرت إدارة بوش نموذج كيرميت روزفلت في إيران فملأت شوارع فينزويلا بالمظاهرات وأعلن الشعب الإضراب التام لإرغام تشافيز على ترك السلطة، استعان تشافيز بالعمال غير المشاركين في الإضراب وقام بإعادة تشغيل شركة البترول الحكومية واصطدم أنصاره مع خصومه واستطاع العودة إلى الحكم بأقل من 72 ساعة، وتمكن من الاحتفاظ بالجيش وطرد زعماء المعارضة ففشل الثعالب في مهمتهم، فكانت فنزويلا شذوذاً عن قاعدة النجاح الأمريكية، وبعد فشل جهود القراصنة الماكرة في العراق لإرغام صدام على الإذعان كان لابد من التركيز على الاكوادور.
عندما دخلت في البداية شركات التنقيب عن النفط التي اقتطعت مساحات واسعة من غابات الأمازون العائمة على بحر من النفط رافقها مدارس تبشيرية قدمت بحجة تقديم المساعدات لشعب الإكوادور إلا أن عملها الحقيقي كان إقناع الأهالي بهجرة أراضيهم من أجل استغلال النفط وكانت عائلة روكفيلر (القرصان الاقتصادي الأكبر) مالكة شركات شيفرون واكسون وموبايل هي من تمول هذه المدراس، أدرك رئيس الإكوادور رودولس دور هذه المدارس فقام بطردها، فاغتيل في عهد ريغان حيث كان اغتياله رسالة لمن يفكر بمقاومة الكربوقراطية، ثم خلفه رئيس وزراء بنما عمر توريخوس الذي اغتيل بحادث طائرة لأنه منع شركة “بكتل” التي ترتبط مع نيكسون وفورد وبوش من توسيع قناة بنما وإعطاء الفرصة لليابان التي قدمت عروضاً للتكاليف أقل بكثير من شركة “بكتل”، كما أُرغم كارتر بموجب اتفاقية كارتر وتوريخوس بالتخلي عن سيطرة الولايات المتحدة على قناة بنما فتم إغلاق قاعدة الكومندوس الجنوبية في المركز الاستوائي، وهذا لم يرق للكربوقراطيين فاغتالوه وعينوا “نرويجا” بدلاً عنه، إلا أن نرويجا أيضاً رفض تمديد عمل المدرسة التبشيرية وأكد على الالتزام بتنفيذ اتفاقية القناة وهنا فشلت الثعالب بمهمتها، فالعودة إذاً للأسلوب القديم حيث قامت أمريكا عام 1989 بهجوم على بنما صنف كأعنف قصف جوي منذ الحرب العالمية الثانية في انتهاك واضح للقانون الدولي.
كان ذنب بنما أنها لم تنصاع لرغبات ثلة من الساسة الأباطرة المسؤولون عن الشركات الكبرى، فأرسلت إدارة بوش من خلال هذا القصف رسالة مفادها أنها لن تتردد في استخدام القوة من أجل تحقيق أهدافها، كان الهدف من غزو بنما ترويع دول أخرى كالعراق وإيران والسعودية وسورية وإجبارها على الخضوع، واعتقلت أمريكا نرويجا وحكمت عليه بالسجن 40 عاماً، وكان ضحية الغزو 5000 قتيل و25 ألف مشرد اختصرتهم واشنطن في إعلامها بـ500 قتيل وعادت للسيطرة على الممر المائي متجاهلة المضمون القانوني للمعاهدة الموقعة، واستمرت شركات الكربوقراطيين بالتنقيب عن النفط إلى أن أصبحت الإكوادور أكبر عشر دول تزود الولايات المتحدة بالبترول فكانت فريسة مثالية للكربوقراطية أثقلوا اقتصادها بالمليارات المستدانة، فأصبحت تنفق أكثر من 50% من ميزانيتها لسداد ديونها، وبالتالي دفع تحدي تشافيز وصدام أمريكا للبحث عن الورقة الرابحة فكانت الإكوادور الغارقة في ديونها، ففشلوا في فنزويلا والعراق ونجحوا في الإكوادور وأدخلوها إلى حظيرة الاقتصاد، فكل 100 دولار من عوائد النفط الخام يذهب 75 دولار لشركات البترول و25 للإكوادور حيث يذهب 75% منها لسداد الديون الخارجية وما يتبقى يذهب لتغطية شؤون الجيش والنفقات الحكومية ويخصص دولارين ونصف فقط كنفقات على الصحة والتعليم.
هذه الأحداث تزامنت مع انهيار الإتحاد السوفياتي مما أدى إلى وصول الكربوقراطية إلى تحقيق حلمها في خلق امبراطورية عالمية اندمج فيها العالم في وحدة واحدة، تحكمها شروط العولمة الاقتصادية والسمات الزائفة لحرية السوق فكانت حالة استعمارية جديدة، حيث لا يمكن لأي دولة أن تقاوم الاستقطاب القسري للعولمة والقليل من الدول التي استطاعت أن تنجو من الإصلاحات الهيكلية وتفلت من شروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو منظمة “الغات”، وتفردت أمريكا بالعالم وأصبحت تكافئ من خضع وتعاقب من تمرد.
وجود قوي للقراصنة في بغداد
بالنسبة لـ”الشرق الأوسط ” فقد توجهت الأنظار إليه بعد تولي بوش الأب منصب نائب رئيس الولايات المتحدة وتولي بوش الابن رئيس مجلس إدارة “هاركن” للبترول حيث شرعت شركات الكربوقراطيين بنشاط البحث في الاستثمار البترولي في الشرق الأوسط عام 1986، فقد تفاوضت شركة “أمكو” مع حكومة البحرين وبعد أن أصبح جورج بوش رئيس الولايات المتحدة حلت شركة “هاركن” مكان شركة “أمكو” فكان بوش جزءاً من شبكة اتصالات صنعها قراصنة الاقتصاد الذين هم سادة المستعمرات الجدد.
قررت إدارتا بوش وريغان تحويل العراق إلى نسخة عن السعودية حيث كان وجود القراصنة قوياً في بغداد خلال ثمانينيات القرن العشرين، فتصدر العراق قائمة دول العالم لامتلاكه حقول النفط الضخمة مكنه من القدرة على تمويل مشروعات البنية التحتية فاستقطب كافة اللاعبين الكبار من شركات الكربوقراطيين، لذا اعتقدوا أن صدام سيتبع المنهج الأمريكي وينحو خُطا السعودية فيضمن بقاءه في الحكم إلى الأبد مقابل شراء بتروله، وتقديم عائدات البترول لتشغيل الشركات الأمريكية في تحسين البنية التحتية للعراق، لكن أهمية العراق الجيوسياسية تجاوزت مكانته البترولية كونه أصبحت الأهمية السياسية والاقتصادية للمياه خلال عقد الثمانينيات بالغة الأهمية بالنسبة لشركات الكربوقراطيين التي كانت تعمل في مجال الطاقة والهندسة، والتي وضعت نصب أعينها من خلال برامج الخصخصة (الوصفات التي تقدمها أذرعها المؤسسات المالية) خصخصة المياه في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، إضافة إلى موقعه الجغرافي فالمدى الصاروخي قادراً على إصابة أهداف حيوية من “إسرائيل” إلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، فتشابه أهمية العراق أهمية نهر هدسون خلال حرب الفرنسيين مع الهنود الحمر فمن يسيطر على هدسون يسيطر على القارة الأمريكية، وكذلك في حال السيطرة على العراق تسيطر الكربوقراطية على الشرق الأوسط، إلا أن فطنة صدام بعدم ابتلاع الطعم أضعف صورة بوش داخلياً، فكان الحل بدفع صدام بغزو الكويت فاتهم بوش الذي انتهك القانون الدولي في فيتنام صدام بانتهاك القانون الدولي.
شجع آل سعود غزو أمريكا للعراق لأن بترول العراق يفوق بترول السعودية وبالتالي لا يصبح هناك حاجة للاستمرار بالاتفاقية التي أبرمتها أمريكا معهم، فكانت نهاية صدام كنهاية نرويجا ستغير قواعد اللعبة؛ فمجرد تغيير الدمى في الحكم تحقق أمريكا أهدافها، أما أمريكا تعني لها السيطرة على العراق السيطرة على الأوبك، وإخراج السعودية من الساحة البترولية وبالتالي تأمين الإمدادات من الذهب الأسود هو الهدف، وليس محاربة الإرهاب في أفغانستان لأن تحكم دول “الأوبك” في أسعار النفط سيؤدي إلى قلب موازين التوازن الجيوسياسي كما حدث عام 1973 ويفضي في النهاية إلى انهيار النظام الذي بذلت الكربوقراطية جهوداً كبيرة لترسيخه، هذا فضلاً عن أن الحرب على العراق كانت لسداد ديون أمريكا التي فاقت 6 ترليون دولارعام 2003، فشنت هجوماً دمر أهدافاً عسكرية تبعه هجوم بري طال فلول الجيش العراقي وكانت الحجة جاهزة كالعادة، وهي امتلاك العراق السلاح الكيميائي وكانت نهاية صدام فعلا كنهاية نرويجا وكل من وقف بوجه الكربوقراطية، فتحسنت صورة بوش لدى الشعب الأمريكي وكانت أولى نتائج غزو العراق منح شركة “بكتل” ويرأسها جورج شولتز الذي كان رئيس CIAفي عهد فورد ووزيراً للخارجية في عهد ريغان توقيع عقد لإعادة إعمار العراق، كما حصلت شركة هاليبرنتون على عقد تزيد قيمته على مليار دولار والتي كان مديرها التنفيذي ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن.
في سورية تغيرت قواعد اللعبة
تسلسل المشهد الدولي للأحداث هذا وتشابكها يعني جاء أكل حبة العنب التي أصبحت ضرورة ملحة بعد العراق وهي سورية (السيدة) لأهمية موقعها الجغرافي فهي البوابة البحرية والجسر الذي يربط الشرق بالغرب، وإن لم تفتح البوابة لن تتشابك البحار، هذا فضلاً عن اكتشافات النفط والغاز التي صرح عنها معهد واشنطن للشرق الأوسط المرتبط باللوبي اليهودي “إيباك”، والأهم صلابة رئيسها وتحديه للامبراطورية العالمية، فبالسيطرة على سورية يتم التخلي عن هضبة الجولان ولواء اسكندرونة، وتصدير قطر لغازها عبر الأراضي السورية لمواجهة غاز روسيا، وتمرر المياه لـ”إسرائيل” من سد أتاتورك، فتم التخطيط للحرب عليها وبرمجتها منذ عام 2001 كما جاء في كتاب “عاصفة على الشرق الأوسط الكبير”، من قبل منظمة غير حكومية تابعة لـCIA اسمها “برنامج سورية للديمقراطية الأمريكية”، فقد تم تجهيز أبنية في كردستان العراق للاجئين السوريين منذ عام2009، وخطط دينس وهو أحد مستشاري أوباما لإنشاء فكرة المجلس الوطني المعارض، وتم خلق فصائل مسلحة جميعها متطرفة بما فيها “الجيش الحر” تعمل تحت الوصاية التركية والأمريكية، وبدؤوا بتطبيق نموذج كيرميرت روزفلت بإسقاط قائدها كما فعلوا مع مصدق ففشلوا، فكان البديل جاهزاً بإدخال الدولة في حرب عصابات مع وكلائهم في البداية إلى تطورت إلى حرب مباشرة، ففشلوا أيضاً فشلاً ذريعاً بسبب صلابة ما تسميه الكربوقراطية محور الشر ممثلاً بالقائد والشعب والجيش وحزب الله وإيران إضافة إلى العراق وروسيا، وإن محاولتها خلق حرب شيعية سنية بين دول المنطقة لإضعافها جميعاً والسيطرة عليها من خلال تدحرج الكرة من دولة لأخرى باءت بالفشل.
لقد حققت الكربوقراطية هدفها في معظم الأحيان خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب بين الشيوعيين والرأسماليين، حيث تفردت أمريكا بزعامة العالم فأصبحت واقعاً وفرضت نفسها محركاً رئيساً للاقتصاديات والسياسات العالمية، فتوجهت أنظار النخبة إلى خيرات الشرق الأوسط فخططت لانهيار دوله وأنظمته التي تعارضها وحافظت على الذين أيدوها وأضعفت الأوبك وسيطرت على أسعار النفط وسعرته بعملتها، إلا أن الحرب على سورية التي كانت ستوصلها لنهاية العنقود وضعت حداً لهذه النخبة وجعلتها تشعر بذل أكبر من ذلها بفيتنام، وحدت من أحلامها من خلال توحد مواقف الدول التي تؤمن بالعدالة والتي تعي الألاعيب الكربوقراطية، وبالتالي كان أوسطاً جديداً ولكن ليس كما أرادوه؛ بل كما يرسمه الحلف المقاوم لهم.
ويتم الآن إعادة رسم العالم بأكمله وليس فقط الشرق الأوسط، فتصريحات بوتين بعد فوزه الصاعق بأن أي تهديد لروسيا أو حلفائها سيكون الرد صاعق باتجاه قواعد عسكرية أمريكية قد تتجاوز الحدود السورية إلى إحدى الدول المجاورة لسورية، وقد جهزت صواريخ كاليبر للانطلاق بأهدافها بدقة عالية، ورده على تغريدة ترامب: “استعدي يا روسيا في سورية فالصواريخ الذكية آتية إلى سورية”، بإخراج ٦ صواريخ سارامات بكامل أسلحتها وتوجيهها إلى كامل اوروبة يعني أن التفرد بالعالم قد انتهى، كما أن تصدي سورية للعدوان الثلاثي عليها كعاداتهم حين ينتهكون سيادة الدول التلفيقات جاهزة، استخدام النظام للكيماوي، من خلال دفاعاتها الجوية القديمة المطورة من قبلها، يعني أن التفرد بالعالم انتهى ونحن أمام خارطة جديدة دفع ثمنها شعب سورية وجيشها وقائدها وثرواتها لكنها ستغير قواعد اللعبة.
فما حل في نظام باكس روما سيحل عاجلاً في نظام باكس أمريكانا كما جاء في كتاب “من العبودية إلى العبودية” أي أن عمليات التوسع في بلدان الغير ستنتهي، فإذا كانت الإمبراطورية الرومانية قد انهارت بقسوة فإن انهيار الامبراطورية الأمريكية سيكون أعنف فالنقود في عصر الامبراطورية الرومانية كانت مغطاة بالسلع أو الذهب، أما هذه الامبراطورية فهي تطبع نقودها وتغطيها بعنجهيتها وتفردها في زعامة العالم.
بعد هذا العرض عن النموذج الرأسمالي الجديد سيبقى المعجبون به ينعقون لاعتماده وتطبيقه.. المهم أن نبقى يقظين!!
Discussion about this post