العالم الاقتصادي – رصد
يترك الأشخاص وظائفهم للكثير من الأسباب، تختلف الأسباب بين شخص وآخر بالتأكيد وتعتمد بشكل كبير على المستوى الوظيفي والاقتصادي، ونمط الحياة الشخصية للفرد، لكن هذه الأسباب غالبًا ما تدور في فلك بعض المشكلات الرئيسية المشتركة، والتي يجب على المديرين وأصحاب الأعمال معرفتها إن كانوا يرغبون في الحفاظ على موظفيهم، خاصة المجتهدين منهم. وذلك لأن زيادة معدَّل الاستقالات وما يقابلها من زيادة في معدَّل توظيف أشخاص جدد، يُفقد بيئة العمل مصداقيتها، ويُشعر كل الموظفين بعدم الأمان الوظيفي؛ مما يجعلهم يتركون الشركة في أول فرصة.
الفرار من بيئة العمل المسمومة والبحث عن فرص أفضل
إذن ما الأسباب التي قد تدفع الموظفين إلى الاستقالة من عملهم؟ كما ذكرنا هناك عدة مشكلات رئيسية، أولها في الكثير من الأحيان رغبتهم في الفرار من مدير سيئ أو إدارة فاشلة، أو الإفلات من بيئة عمل مسمومة وعلاقات عمل مليئة بالمشاعر السلبية، وقد تكون الرغبة في ترك العمل انعكاسًا لإحساس الموظف بعدم التقدير، وبأنه يمكن الاستغناء عنه، أو أن عمله في الشركة غير مرئي من مديريه ولا يُكافأ عليه سواء ماديًّا أم معنويًّا.
يرحل البعض أيضًا إن كان عملهم الحالي لا يحفِّزهم بالشكل الكافي، أو لا يمثل لهم تحديًا كافيًا للاستمرار بالكفاءة نفسها في العمل، وإن كانت بيئة العمل لا تسمح لهم بالترقِّي أو تطوير أنفسهم في مجال عملهم، فإنهم يتركون العمل بحثًا عن بيئة عمل أفضل تساعدهم على التطور المهني الذي يرغبون فيه.
أما اتِّباع الشغف والبحث عن الإبداع والإلهام في العمل، فقد أصبح في السنوات القليلة الأخيرة واحدًا من أهم الرسائل التي يجري تداولها عبر منصات الإعلام المختلفة، ويتلقاها الجمهور بجديَّة، ففي العصر الذي لا يجد فيه الشخص وقتًا كافيًا للاهتمام بنفسه وأسرته، ومقابلة الأصدقاء، وتأدية العمل على أكمل وجه، تصبح ممارسة الهوايات أمرًا ثانويًّا ينساه الكثيرون تحت إيقاع الحياة السريع، لذلك وتدريجيًّا ارتفعت الأصوات التي ترى أن العمل يجب أن يفسح مجالًا للأشخاص لإشباع شغفهم وممارسة هواياتهم الفردية، فإن لم يكن ذلك هو الحال، فربما تكون الخطوة الصحيحة هي أن يعمل الشخص في مجال شغفه.
والجائحة تكشف أزمة الوظائف الخفية
ازداد الوضع الوظيفي تأزمًا بعد تفشي وباء كوفيد-19، فبينما أفلست الكثير من الشركات واضطرت إلى التخلي عن موظفيها سواء بشكل كامل أو بشكل جزئي، اكتشف ملايين الموظفين عبثية إهدار أعمارهم في وظائف لا يحبونها ويعملون بها فقط من أجل المال، ولكنهم لا يهتمون بها حقًّا حتى وإن أتقنوها.
لا يزال الوباء يلقي بظلاله على الكوكب، ولكن كلما مر الوقت ومع ظهور اللقاحات التي ساعدت على احتواء الخطر الوبائي، وانتشار الأخبار عن تراجع أعداد المصابين واحتمالية عودة الحياة لطبيعتها السابقة، تزايدت رغبة هؤلاء في ترك وظائفهم الروتينية، إما للتقاعد المبكر واكتشاف الذات والقدرات، أو لاتباع شغفهم الخاص وتحويله إلى عمل خاص يحظون فيه بالحرية، بعيدًا عن القيود التي قد يفرضها مديروهم في العمل.
وفي الواقع، لا ينبغي أن يكون هذا الأمر محل استغراب؛ فقد أثبتت الدراسات أنه عند تعرض الإنسان لصدمة حياتية سلبية، فإنه يراجع خطوات مسيرته السابقة ويحاول استدراجها للمسار الذي يراه صحيحًا، ومع صدمة عالمية في حجم الوباء؛ فإن مثل هذه المراجعات تحدث بشكل واسع وجماعي وبدون اتفاق مسبق.
لكن لماذا يتجهون إلى إنشاء مشروعات خاصة؟
ولكن سواء أُجبروا على ترك وظائفهم، أو استقالوا منها بكامل إرادتهم، فما الذي يدفع الكثير من الناس إلى إطلاق مشروعاتهم الخاصة، بدلًا من البحث عن وظيفة ثابتة أخرى؟ خاصة أن مخاطر افتتاح مشروعات خاصة كثيرة، وأن نحو 20% من هذه الأعمال لا تستطيع اجتياز أول عامين بدون إعلان الخسارة والإفلاس، ونحو 25% فقط من المشروعات الناشئة هي التي تنجح وتستمر لما يزيد على 15 عامًا أو أكثر، ورغم ذلك فالإقبال على إنشاء المشروعات الخاصة في تزايد مستمر.
يرجع ذلك إلى أنه بعد تجارب سابقة في العمل تحت إمرة مدير ما، يتوق الكثيرون إلى أن يكونوا هم أصحاب العمل، ومن ثم لا يوجد مدير أعلى منهم وظيفيًّا يستطيع معاقبتهم أو حتى مراقبتهم، كذلك وجد الكثيرون أنفسهم في حاجة إلى المرونة في العمل، فمع المواعيد الصارمة التي تفرضها الشركات للحضور والانصراف، أو حتى مجرد الإجبار على العمل من المكتب، فقد كشفت الجائحة أنه يمكن للكثير من الوظائف أن تُمارَس دون التقيد بهذه القواعد الصارمة.
لذا كان الحل من منظور الكثيرين هو تأسيس مشروعاتهم الخاصة، ورغم أن هذا الأمر لا يعني بالضرورة عملهم لعدد ساعات أقل، بل على العكس فإنهم قد يعملون باجتهاد أكبر ولعدد ساعات أطول، فإنهم يستطيعون بشكل ما الحصول على المرونة التي يأملون أن يتمتعوا بها في حياتهم، مع الأخذ في الاعتبار أن عمل الشخص من أجل نفسه يخلق بداخله رغبة وحماسة أعلى للعمل، بالمقارنة مع الدوافع التي قد توجد لديه بصفته موظفًا في شركة مملوكة لآخرين، خاصة إن كان يعاني من بعض المشكلات داخل هذه الشركة.
أمران مهمان آخران لا يمكن إنكارهما عند ذكر التوجه نحو إطلاق المشروعات الخاصة، الأول هو إهمال الجانب الإبداعي والحس الشغوف للأفراد عند العمل في وظيفة روتينية، وهو ما ارتد على أصحاب الأعمال في شكل ظاهرة استقالات عديدة يتوجه أصحابها لتأسيس أعمالهم الخاصة، التي قد تكون بعيدة كل البعد عن وظائفهم التي أجادوها لسنوات، فتتحول موظفة البنك على سبيل المثال إلى صانعة مخبوزات منزلية، والمحاسب إلى مصور فوتوغرافي، والمهندسة إلى مصممة أزياء.
الأمر الثاني هو تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في نمو الشركات الناشئة؛ ففي السنوات الأخيرة قفزت منصات التواصل الاجتماعي لتحتل موقع محركات البحث فيما يخص بحث المستهلك عن الشركات والمنتجات، وهو ما جعل التواصل بين الشركات والمستهلك متاحًا بشكل غير مسبوق، ومن ثم أصبح وصول الشركات إلى الفئة المستهدفة أكثر سهولة، فيمكن بالضغط على بعض الأيقونات تحديد جنس المستهلك وعمره ومحل سكنه، والتواصل معه بشكل لا يقارن بما كان يحدث قبل عصر السوشيال ميديا.
المشروعات الخاصة vs الوظائف.. من سينتصر؟
مع تزايد عدد الموظفين الذين يتركون عملهم من أجل إنشاء أعمالهم الخاصة التي يهتمون بها فعلًا، ومع التطور المتسارع لمنصات التواصل الاجتماعي، وتأثيرها الإيجابي الهائل في خيارات التسويق ونمو الأعمال، هل سيراجع رجال الأعمال أصحاب الشركات والمصانع الكبرى طريقة إدارتهم للعمل، ومتوسط الأجور ومراعاة متطلبات العصر للموظفين؟ أم سيستمر الهروب من الشركات الكبرى لصالح إنشاء مشروعات صغيرة، لتتغير خريطة سوق العمل بشكل جذري، لتصبح الشركات الناشئة هي نموذج العمل الأكثر شيوعًا بديلًا عن الشركات الكبيرة ذات العمالة الكبيرة؟
Discussion about this post