العالم الاقتصادي- فـــاتــن نظــــام *
في حياتنا نصادف الأفراد الناجحين, ونرى الفاشلين ونقوم بالتساؤل ونتصور مجموعة من السيناريوهات والروايات ونخترع الشماعات ونعزو كل شيء للحظ، ولكن المسألة هي أننا جميعاً نمتلك القدرات والإمكانات، وننسى أو نتناسى أننا بحاجة إلى اكتساب المهارات والقدرات وصقلها بشكل دائم لنكون من «المحظوظين» وليس أن نكتفي بالدراسة الأكاديمية, من هنا بالذات يبدأ الحديث عن مفهوم تنمية الموارد البشرية .
أهمية الثروة البشرية
إن العالم اليوم لا يعترف إلا بالدول القوية، وقد اعتمدت الدول المتقدمة في نهضتها العلمية والعملية على ما تمتلكه من ثروة بشرية بشكل رئيسي، فوجهت جُلَّ استثماراتها نحو تنمية هذه الثروة وتمكينها من أدوات ووسائل العلم النظري، والتطبيق العملي المتقدم, وتهدف من وراء ذلك إلى رفع الكفاءة الإنتاجية، وتميز هذه الثروة البشرية، وقد حققت في الواقع هدفها من ذلك، وهنا يمكننا أن نتحدث عن اليابان كنموذج للدول التي أولت موضوع تنمية الموارد البشرية أهمية فائقة، فاليابان ليست حالة عملية مفيدة بسبب نموها الاقتصادي السريع, ولكن أيضاً من خلال مشروعها التنموي الناجح في إدارة الموارد البشرية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا البلد يواجه ندرة شديدة في الموارد الطبيعية، ولكن رغم ذلك فقد استطاعت بما تمتلكه من ثروة بشرية أن تبني اقتصاداً قوياً، وتقف من خلاله في مصاف الدول الثماني الكبار، فهي على سبيل المثال تنتج سنوياً أكثر من /7/ ملايين سيارة، وقد بلغ العجز في التبادل التجاري بين الولايات المتحدة واليابان /37/ مليار دولار لمصلحة الأخيرة.
في هذه المرحلة لابد لنا من الحديث قليلاً عن مفهوم التنمية البشرية الذي يشير إلى دعم القدرات الخاصة بالفرد الذي يتكون منه المجتمع، وقياس درجة ومستوى معيشة هذا الفرد، ومدى تحسن أوضاعه المعيشية في المجتمع الذي ينتمي إليه, وكلما استطاع الفرد أن يحصل على المزيد من السلع والخدمات, ارتفع مستوى معيشته, ومن ثَمَّ زادت رفاهيته، وهنا تتحقق التنمية البشرية، فالتنمية البشرية تهدف إلى توسيع مدارك الفرد، وإيجاد المزيد من الخيارات المتاحة أمامه، كما تهدف إلى تحسين المستويات الصحية، والثقافية، والاجتماعية، وتطوير معارف ومهارات الفرد، فضلاً عن توفير فرص الإبداع، واحترام الذات، وضمان الحقوق الإنسانية، وضمان مشاركته الإيجابية وتعزيزها في جميع مناحي الحياة.
شمولية التنمية البشرية
بات مفهوم التنمية البشرية أكثر اتساعاً وشمولية حيث يشمل في الوقت الراهن العديد من النواحي النفسية (السيكولوجية) كالغايات والأهداف الخاصة بالفرد، التي يحقق معها ذاته وطموحاته, إضافةً إلى الأهداف الاقتصادية، ما أدى إلى تغيير مفهوم التنمية البشرية من مجرد إشباع النواحي الفسيولوجية للفرد- كدليل على وصوله إلى مستوى معيشي كريم- إلى مفهوم التنمية البشرية الأوسع، والذي يرتبط بجودة حياة الفرد، وبإشباع حاجاته الفسيولوجية والسيكولوجية معاً, وليس حياته الفسيولوجية فقط كما كان سائداً في مراحل سابقة.
الاهتمام العالمي بتنمية الموارد البشرية
يرجع الاهتمام العالمي بموضوع تنمية الموارد البشرية إلى الاعتقاد الراسخ بأن البشر هم الثروة الحقيقية لأيَّ دولة، ولأي مجتمع، وبالقدر الذي يتمكن فيه المجتمع من الحفاظ على ثروته البشرية، والعمل على تنمية قدراتها عن طريق التأهيل والتدريب المستمر، لإكسابها القدرة على التعامل مع التطورات والمستجدات التي تظهر في مختلف الحقول على الساحة الدولية, بالقدر نفسه يمكن لهذا المجتمع أن يتقدم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مقارنة بغيره من المجتمعات.
استثمار الموارد البشرية
يعتبر الاستثمار في تنمية الموارد البشرية من المواضيع المهمة والضرورية لما للموارد البشرية من أهمية قصوى وحيوية في تطور المجتمعات، فهي الثروة الحقيقية والرئيسية للدول والمجتمعات التي أيقنت تلك الحقيقة, فأحسنت التخطيط الاستراتيجي ونفذت برامج محددة لتنمية هذه الثروة البشرية على مدار عقود من الزمن، ووصلت إلى ما وصلت إليه من رقي وتقدم وفقاً للأرقام والمؤشرات التي تقدمها وتجعلها في الصدارة على عدد من المستويات الرفاهية للمواطنين لديها.
إن الموارد الطبيعية والأموال المتوافرة لدولة ما – رغم أهميتها- لا تغني عن العنصر البشري الكفؤ، والماهر، والفعال، والمدرَّب، والمُعد إعداداً جيداً مبنياً على أسس علمية دقيقة، فالأموال والموارد الطبيعية لا تنتج منتجاً بذاتها، بل البشر هم وحدهم القادرون على توظيف هذه الموارد بنسب متفاوتة من حيث الكفاءة والفعالية في العملية الإنتاجية، للحصول على السلع والخدمات التي تسهم في تحقيق أقصى إشباعٍ ممكن للحاجات الفسيولوجية والسيكولوجية للفرد، بهدف الوصول إلى تحقيق الرفاهية والحياة الكريمة للفرد والمجتمع, ومن ثَمَّ التقدم الاقتصادي للدولة، وللاقتصاد العالمي في الإجمال عبر عملية التبادل والتكامل.
ويمكن للعنصر البشري بما لديه من قدرة على التجديد، والإبداع، والاختراع، والابتكار، والتطوير، يمكنه أن يتغلب على ندرة الموارد الطبيعية وشحها، والحؤول دون أن تقف عائقاً أمام النمو والتقدم, وذلك عن طريق الاستغلال الأمثل لطاقات المجتمع العلمية والإنتاجية، فضلاً عن الاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية والاستثمارات المتاحة.
وما ذكرنا يتبين لنا أهمية العنصر البشري, الذي يمثل الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية الشاملة في جميع المجالات الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية, وما لا شك فيه أن الدول التي تعجز عن تنمية مواردها البشرية لا يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها وهي عاجزة عن تنفيذ خططها وبرامجها المأمولة، مهما ابتكرت من وسائل، وإنما يتسنى لها أن تحقق غاياتها وأهدافها عن طريق تضافر جميع عناصر الإنتاج (الأرض، والعمل، ورأس المال، والإدارة).
ونلاحظ هنا أن العنصر البشري من عقل وطاقات وجهد بشري تمثل عنصراً من عناصر الإنتاج، وهذا التضافر يؤدي بلا ريب إلى التطور والتقدم المنشود، واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة الاستغلال الأمثل، وفتح الأسواق، والقيام بعمليات التبادل التجاري لتلبية احتياجات المجتمعات المختلفة.
ولا تشكل إنتاجية الفرد عامل سوى انعكاساً حقيقياً لمدى مساهمته في العمل – ككل – بالجزء المكلَّف به، والذي يستخدم جهده، وعلمه، ومهارته في أدائه، وتحسب مساهمة الفرد عامل بمقدار القيمة المضافة إلى المنتج النهائي, ومن الطبيعي أنه كلما زادت إنتاجية الفرد زادت مساهمته في القيمة المضافة إلى المنتج النهائي، فضلاً عن زيادة أهمية دوره الوظيفي، ما ينعكس على شعوره بمدى أهميته في مكان عمله، وما يمكن أن يحصل عليه من مزايا معنوية، كشهادات التقدير، أو الثناء من رؤسائه على عمله وتقديرهم له، الأمر الذي يعزز روحه المعنوية وتشكل دافعاً له نحو المزيد من بذل الجهد، ومن ثَمَّ الحصول على المزيد من التقدم على المستوى الفردي، وعلى مستوى العمل، ومن ثَمَّ شعوره بمدى أهميته داخل مجتمعه، فضلاً عن المزايا المادية، المتمثلة في زيادة الدخل، والحوافز والمزايا الأخرى.
على النقيض من ذلك فإن انخفاض إنتاجية الفرد تؤدي إلى انخفاض أو تلاشي مساهمته في القيمة المضافة إلى المنتج النهائي، فضلاً عن انخفاض أهمية دوره الوظيفي، الأمر الذي ينعكس على شعوره بعدم أهميته في مكان عمله، وقد يتعرض لفقده حتى وما يترتب على ذلك من آثار نفسية سلبية ومؤلمة، تؤدي بلا شك إلى المزيد من انخفاض الروح المعنوية، فضلاً عن العقوبات المادية التي قد يتعرض لها، من خصومات تؤدي في النهاية إلى انخفاض دخله، ومن ثَمَّ شعوره بانعدام عدم أهميته في مجتمعه ومحيطه.
إن زيادة الإنتاجية لا تأتي فقط نتيجة كفاءة الإدارة في استخدام الأساليب الإدارية الحديثة في إدارتها للعملية الإنتاجية؛ بل يتواكب ذلك مع استخدام التكنولوجيا الحديثة في تطوير المنتج بشكل مستمر، فضلاً عن الاستثمار الدائم في تنمية الموارد البشرية، وتطويرها المستمر، عن طريق وضع البرامج التدريبية المدروسة على أسس علمية للنهوض الدائم والمستمر بالقوى عاملة المتاحة للشركة أو المنظمة، وحرص الإدارة الدؤوب على جودة المنتج وتميُّزه، وهذا يتطلَّب التخطيط السليم، والمتابعة المستمرة للعملية الإنتاجية؛ منذ البداية، وحتى الوصول إلى المنتج النهائي في الصورة المرجوَّة، ويتطلب ذلك من الإدارة أن تكون حريصة على كفاءة الخامات المكوِّنة للمنتج، والآلات والمعدات التي يمر بها المنتج، فضلاً عن كفاءة العمالة الماهرة التي تقوم بعملية الإنتاج ومتابعتها ورفدها بآخر المستجدات في الحقل الذي تعمل فيه.
التدريب والتنمية البشرية والاقتصادية
تتجه أغلبية دول العالم الآن نحو الأخذ بوسائل التدريب المتقدِّمة؛ لرفع وزيادة الكفاءة الإنتاجية؛ التي تمثل إحدى الأهداف الرئيسية للتنمية البشرية، وإن اختلفت درجات هذا التوجُّه بين العالم المتقدم، والعالم الذي يقف على أبواب التقدم، والعالم النامي.
فمعظم الدول أصبحت تعي أهمية التدريب؛ وما له من دور فعَّال في المحافظة على مكتسباتها الحالية، والمساعدة في تحقيق إستراتيجياتها وبرامجها المستقبلية, وعندما نتحدث عن الاستثمار في البشر، نحن لا نعني أبداً استهداف شريحة الأذكياء بالتدريب وحسب، بل يتعدى الأمر ذلك إلى التطوير والتدريب والبحث عن الأفكار الجديدة، ومعرفة كيفية تطويرها وتوظيفها لخدمة الاقتصاد والمجتمع حتى تتمكن من تحقيق النجاح المرجو الذي يسهم في تطور المجتمع, ويسهم التدريب المستدام بتحليل كل وظيفة على حدة, وتحديد الفجوة بين المهارات الواقعية للموظفين والمهارات المأمول والمطلوب توافرها، ومن خلال هذا التشخيص تتمكن الإدارة من وضع الخطة التدريبية الصحيحة لسد هذه الفجوة، وعليه فإن هناك ارتباطاً وثيقاً بين التدريب وتنمية الموارد البشرية؛ حيث ترتكز تنمية الموارد البشرية على:
1 – وجود كفاءات منتقاة من المديرين، تم صقلها بأساليب تدريبية عالية، أكسبتهم مهارات خاصة، وخبرات كبيرة تمكنهم من أداء مهامهم وتنفيذ البرامج والخطط والتعامل مع الفريق الذي يتعاملون معه.
2 – العمل على توافر وامتلاك المهارات المكتسبة، عن طريق التدريب، وتنميتها واستغلالها الاستغلال الأمثل، فالمهارات يمكن إكسابها للأفراد عن طريق الخطط التدريبية ذات الكفاءة العالية، والمخطط لها بشكل علمي سليم، مع الحفاظ على المهارات الموهوبة للأفراد بعد اكتشافها، بالعمل على تنميتها وصقلها ببرامج تدريبية خاصة، وتوفير البيئة الصحيحة المساعدة على تأصيلها.
3 – وجود خطط تدريبية عامة وخاصة ذلك أن تدريب عاملين أمر مهم وضروري، خاصةً عاملين من أصحاب المهن الفنية المعقَّدة، وذلك باتباع طرق التدريب الأساسي، والتدريب التخصصي.
ختــــــامــــــاً
لا يسعنا إلا أن نؤكد أن التدريب يشكل استثماراً حقيقياً ومباشراً يؤدي إلى تنمية الموارد البشرية؛ فكلما زاد استثمار الدولة والقطاع الخاص في تنمية مهارات الأفراد عاملين لديهم، ورفع مستوى كفاءتهم العلمية والعملية، سيصب ذلك مباشرة في رفع الإنتاجية، وفي النهاية في مجرى رفع المستوى المعيشي لهم؛ ويؤثر بشكل مباشر أيضاً في مشاعرهم وتفكيرهم وولائهم وانتمائهم للمكان الذي يعملون فيه، ما يؤدي إلى تعزيز الحافز والإبداع في العمل، فضلاً عن امتلاك الدولة والقطاع الخاص في المحصلة لهذه المهارات التي أكسبتهم إياها ببرامج التدريب المدروسة والمفيدة.
* مدربة دولية
Discussion about this post