بقلم: د. موسى الغرير
تشكل الرواتب والأجور الجزء الأساسي في مكونات الدخل والمحفز على التعليم وزيادة الإنتاجية، لهذا نرى العديد من البلدان تعتمد معايير واضحة لتحديد النسب بين أعلى الرواتب وأدناها.
من أهم هذه المعايير المستوى التعليمي والخبرة ونوعية العمل وشدته، وأهميته واعتبارات أخرى تتعلق بعملية التوزيع العادل للدخل، والمحافظة على دور الطبقة الوسطى في المجتمعات، ولأسباب عديدة اقتصادية وغير اقتصادية.
وقد أكدت نتائج البحوث التي أجراها المكتب المركزي للإحصاء في سورية على أهمية الرواتب والأجور في تحسين مستوى الدخل بشكل عام، وفي تحديد نسبة الإقبال على التعليم من خلال السؤال الذي تضمنته استمارة البحث الخاصة بهذا الشأن، والذي جاء فيها: لماذا تطمح لإنهاء هذه المرحلة؟ (المرحلة الجامعية) حيث كانت الأجوبة كما هي موضحة في الجدول المرفق
يتبين من البيانات الواردة في الجدول أن هناك حوالي 19 % من المبحوثين يرغبون بمتابعة تحصيلهم العلمي من أجل تحسين وضعهم المادي، 25 % للحصول على وظيفة أفضل، تشكل حافزاً لدى حوالي 44 % من المبحوثين مقابل 21.5 % بقصد حب المعرفة والإطلاع، و14.5 % بغية كسب احترام الآخرين وتقديرهم، أما بالنسبة المتبقية أي الـ 27 % فقد توزعت على الخيارات الواردة في الجدول أعلاه.
بمقاربة هذه النسب في إطار نظام الرواتب والأجور المعمول بمقتضاه في سورية، نجد أن أدنى راتب كان يحصل عليه العاملون في الدولة عام 2013 هو 13675 ل.س/ شهرياً ليرة سورية وأعلى راتب 23495 ل.س/ شهرياً وبنسبة 1.7/1 وارتفع الأدنى في عام 2015 إلى 16175 ل.س/ شهرياً للفئة الخامسة، والأعلى إلى 25995 ل.س شهرياً للفئة الأولى دكتوراه، وبالتالي تنخفض النسبة ما بين أدنى وأعلى راتب إلى 1.6/1.
أي أن النسبة بين أعلى وأدنى راتب بعد زيادة 2015 تزداد انخفاضاً (التي هي بالأساس منخفضة) مقارنة مع النسب المعمول بها في العديد من بلدان العام بما في ذلك البلدان العربية، حيث بلغت النسبة 2.4/1 في المغرب، و 5.2/1 في مصر، و7.0/1 في لبنان و 7.2/1 في الكويت.
وتستمر الفروق في سورية بالانخفاض 1.7/1 (النسبة العامة) إلى 1.17/1 النسبة ما بين أصحاب الشهادات الثانوية (18930) والجامعية (22215)، حتى يصل الفرق بين راتب من يحصل على الشهادة الجامعية، عن راتب من يحصل على الثانوية إلى حوالي 3285 ليرة سورية فقط، وهذا ما يجعل هذا الفرق (نظراً لمحدوديته) يتحول بعد خمس سنوات من عمل خريج الثانوية، وتعطل الطالب الجامعي عن العمل من موجب إلى سالب (بفرض أن عدد السنوات الدراسية التي يقضيها الطالب الجامعي خمس سنوات بالمتوسط).
لتوضيح هذه الحقيقة الجدول رقم /2/ في الملف المرفق يبين رواتب وترفيعات خريج الثانوي ومتوسط تكلفة الطالب الجامعي خلال خمس سنوات:
أولاً: بالنسبة لخريج الثانوي
1- بفرض أن الحاصل على الشهادة الثانوية قد توظف بعد زيادة عام 2013 أي في 1/7 /2013، عندها سيكون راتب التعيين 16430 ل.س/ شهر.
2- في سنة 2014 هناك ترفيع لموظفي الدولة، وكون أن الموظف قد تعين في 1/7/2013 سيكون ترفيعه جزئي أي عن 6 أشهر فقط وسيحسب الترفيع بالمعادلة التالية:
16430×9 % ÷12 شهر ×6 أشهر =739 ل.س فيصبح الراتب 17169 ابتداءً من بداية عام 2014.
3- في عام 2015 لا يوجد ترفيع ولكن ازداد الراتب بموجب المرسوم التشريعي رقم 41 تاريخ 23/9/2015 وأصبح راتب حامل الثانوية هو (18930) ل.س.
4- في عام 2016 سيكون الترفيع كاملاً أي 18930×9 %=1730 ويصبح الراتب 20633.
5- في عام 2017 سيبقى الراتب لغياب الترفيع كما هو 20633.
6- في عام 2018 سيكون هناك ترفيع كامل أي 20633 ×9 % = 1856 ويصبح الراتب 22489 مقابل 21750 راتب من حصل على الإجازة الجامعية في ذات العام، وبذلك سيكون خريج الثانوية في وضع أفضل من ناحيتين الأولى من حيث الراتب (الذي ازداد بسبب الترفيعات إلى 22489 ليرة، ليصبح راتب من حصل على الثانوية يزيد عن راتب الجامعي بـ 739 ليرة) والثانية من خلال مجموع ما قبضه من رواتب تقدر بـ 1161894 ل.س خلال الخمس سنوات كما هو واضح في الجدول رقم /3/ في الملف المرفق
ثانياً: بالنسبة للطالب الجامعي
1– بالانطلاق من المتوسط السنوي لتكلفة الطالب الجامعي الذي يصل إلى 16000 ل. س (بحسب مسح دخل ونفقات الأسرة الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء عام 2009)، وبافتراض أن سعر الصرف قد زاد خلال الفترة 2009 -2018 بالمتوسط بحوالي عشر مرات، تكون تكلفة الطالب خلال خمس سنوات دراسة هو 16000 ×5×10= 800000 ليرة سورية.
2- إذا تخرج الطالب بعد خمس سنوات وتوظف مباشرة في سنة 2018 سيكون راتب التعيين هو ذات راتب عام 2015 الذي تمت فيه آخر زيادة، وهو 21750، وسيكون قد دفع تكاليف خلال سنوات الدراسة الجامعية على الدراسة فقط ما مقداره 800000 ليرة سورية.
3- بالمقارنة بين الحائز على الشهادة الثانوية (الذي التحق بعمل وظيفي) وبين من تابع تعليمه للحصول على إجازة جامعية يتضح التالي:
أ- إن راتب الحاصل على الإجازة الجامعية عند تعيينه في عام 2018 أي بعد خمس سنوات من الدراسة والتحصيل هو أقل من راتب الشخص الذي أنهى الثانوية والتحق بالعمل بحوالي 896 ل. س شهرياً (22646 – 21750) وليس أكثر كما يفترض أن يكون.
ب- إن مجموع الرواتب التي تقاضاها من التحق بالعمل الوظيفي خلال الخمس سنوات شكلت رصيداً إيجابياً في حسابه يقدر بـ (1161894) ليرة سورية، مقابل رصيد سلبي لدى من تابع تحصيله الجامعي يقدر بـ 800000 ل.س، يدفعه من حساب أسرته خلال سنوات الدراسة (علماً أن المبلغ يزيد عن ذلك بكثير ولا سيما مع التضخم الكبير والأقساط المرتفعة في حالة الدراسة بالجامعات الخاصة).
وبمقاربة الحالتين نجد أن الحائز على الثانوية والتحق بالوظيفة قد حقق ميزات إضافية مقارنة بمن حاز على الشهادة الجامعية، وهذه الميزات تتعلق بزيادة الراتب الشهري وبرصيد الراتب إلى (1161894) الذي تراكم خلال الخمس سنوات، إضافة إلى فرصة إمكانية تأسيس مشروع بهذا الرصيد أو توظيفه بفائدة المصارف.
وهكذا وعلى الرغم من أهمية الأهداف التي يسعى نظام الرواتب والأجور إلى تحقيقها، ومن بينها تقليل الفرق بين أصحاب الدخول المرتفعة والمنخفضة والحد من التمايز الطبقي، فإنه بشكله وحجمه الحالي يفتقر إلى التوازن سواء في حجمه أو توزيعه ويسجل عليه الملاحظات التالية:
1- إن رواتب وأجور الحد الأدنى (الفئة الخامسة) وعلى الرغم من اقترابها من رواتب الفئات الأخرى وبشكل خاص الرابعة والثالثة، إلا أنها غير كافية لتغطية الحدود الدنيا من تكاليف المعيشة، وبالتالي لا بد من زيادتها لضمان مستوى معيشي لائق لأصحابها، ولكن شرط أن تضمن هذه الزيادة تحقيق العدالة بين الفئات، وأن تراعي الاعتبارات الأساسية في تحديد الرواتب (المستوى التعليمي أهمية العمل في زيادة الناتج والإنتاجية، ونوع العمل وشدته وفائدته واعتبارات أخرى).
2- إن الفرق بين الرواتب والأجور ( أدنى وأعلى، وفي ما بين الفئات) كما هو عليه واقع الحال في سورية يؤدي إلى تقليص حجم الفئة المتوسطة في المجتمع، ويحد من إمكانية توسعها بزيادة فقر المتعلمين وتراجع الحافز على التعليم، الأمر الذي نجد تفسيراً له في الفرق البسيط بين فئات الرواتب بين المتعلمين وغير المتعلمين ما ينشأ عنه خلل في نسب الشرائح الاجتماعية، وبتركيبة قوة العمل (حسب المستوى التعليمي)، حيث تزداد نسبة من هم دون الإعدادية إلى حوالي 70 % من مجموع قوة العمل، وبانخفاض نسب من يلتحقون بالتعليم الجامعي من الفئة العمرية 18-23 إلى ما دون 23 %، حيث لا يحفز الفرق بين الرواتب والأجور على متابعة التحصيل العلمي إلى مستويات أعلى، وهذا ما يحتاج إلى معالجة وتصحيح لهذه الانحرافات تقوم على:
– زيادة الرواتب والأجور وبصرف النظر عن المبررات غير المقنعة التي تتجه في التبرير إلى القول بعدم توفر الموارد الكافية، ذلك لأن المشكلة لا تتعلق بمجملها بعدم توفر مصادر التمويل (التي يمكن توفيرها من مصادر عديدة: زيادة إنتاجية العامل، والتقليل من الهدر التعليمي، ومن الفقدان) وإنما بالخلل في النسوي، ومن تصويب السياسات المالية لجهة انخفاض نسبة التحصيل الضريبي تركيبة توزيع الناتج المتمثلة بزيادة نسبة الأرباح، وانخفاض نسبة الرواتب في مكونات الناتج المحلي الاجمالي، وعوامل أخرى.
– إذا كانت زيادة الرواتب والاجور تؤدي الى ارتفاع الاسعار وزيادة التضخم، فإن ذلك يعود الى انخفاض الإنتاجية التي يفترض أن يجري العمل على زيادتها، وإلى عدم الاستفادة من المرحلة الانتقالية التي تمر ما بين الزيادة في الرواتب والأجور والزيادة في الأسعار بتحريك الدورة الاقتصادية وزيادة الإنتاج.
– توسيع الفرق بين من يملك أعلى المؤهلات والخبرات وبين من لا يملك ، لأن هذا الفرق بين أعلى وأدنى راتب محدود، وقد أدى ويؤدي الى قتل روح المبادرة، وإلى هجرة ذوي الكفاءات الى الخارج والى قتل الحافز على التعليم.
– إعادة تفعيل الطبقة الوسطى التي انتقلت بسبب انخفاض دخول أفرادها الى الطبقة الفقيرة، وتحويلها إلى طبقة داعمة وممولة لعملية التنمية بدلاً من أن تكون عالة عليها، (باعتبارها أصبحت تحتاج الى الدعم والمساعدة). وأخيراً إذا كانت مصلحة الأمم هي في التقدم والتحرر والتنمية، فإن الطبقة الوسطى هي الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمة، فهي إضافة إلى أنها تشكل محور النشاط الاقتصادي والاستثمار فيه، فإنها التربة الخاصة التي تنمو فيها ثقافة المجتمع النيرة وتقاليده المتحررة، وعندما تتقلص مساحة انتشارها، فإن الفراغ الذي تحدثه قد تملؤه طبقة أخرى بثقافة وتقاليد مغايرة تحطم المجتمع وتهشم بنيانه كما يحصل في الأيام التي نعيش من خلال سيطرة الفكر التكفيري في أكثر من مكان من دول المنطقة.
Discussion about this post