بقلم: عابد فضلية
ليس صحيحاً أن ذيول الأزمة المالية الاقتصادية العالمية عام 2008 قد انتهت، ولا حتى خَبت تداعياتها؛ فبحسب أستاذ الاقتصاد الأمريكي رافي باترا في السبعينيات من القرن الماضي، وبعد أن حلل واستقرأ سيرورة ومراحل تطور النظام الرأسمالي العالمي، فقد توصل إلى أن هذا النظام، ومنذ أزمة عام 1870 في إنجلترا، يمر بأزمة اقتصادية دورية كل عقد من الزمن، وبأزمة كساد معقدة كل ثلاثة عقود، وفي حال استطاع النظام الرأسمالي أن يوجد آليات تُخفف من آثار وتداعيات هذا الكساد، كما حدث عام 1900، فلا بد أن يأتي الكساد الدوري التالي مزلزلاً، وهذا ما حدث فعلاً في فترة أزمة الكساد العالمي عام 1929، والتي انتهت باندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي أسفرت بدورها بتأسيس الدول الكبرى لمنظمات ومؤسسات الأمم المتحدة، وبالتالي فقد كانت أهداف الحرب بدافع الخروج من أزمة الكساد عام 1929، ليأتي تأسيس المنظمات والمؤسسات الدولية بهدف تقليص آثار هذه الحرب، لذلك فقد جاءت دساتير وتشريعات المؤسسات والمنظمات الدولية لتراعي مصالح الدول المنتصرة في الحرب على حساب المصالح الحقيقية المادية وغير المادية للدول النامية.
والتاريخ يعيد نفسه، وما نعيشه اليوم من أحداث إقليمية ودولية ما هو إلا امتداد لتحقيق مصالح حلفاء الحرب العالمية الثانية، الذين حولوا أزماتهم الداخلية، وفيما بينهم، وجعلوا احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، لتنقلب الأزمات والصراعات والحروب لدى وبين أطراف الحرب العالمية الثانية، من على بينهم وعلى أرضهم إلى حروب جزئية متفرقة لدى وبين الآخرين بالوكالة، وعلى أراضي وحساب وتكلفة الغير.
لقد تجسد ذلك منذ الأزمة المالية الآسيوية في نهايات التسعينيات من القرن الماضي، حرب احتلال وتحرير الكويت، مروراً وليس انتهاءً بإحداث وليس بأحداث 11 أيلول، وما تبعها من بلطجة دولية مشرعنة تحت شعار محاربة الإرهاب، وبما حدث بعدها في أصقاع الأرض كافة، وما يحدث اليوم في دول الوطن العربي للتخفيف من آثار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية التي بدأت آثارها في نسب النمو في الاقتصاد الأمريكي وانفلتت عام 2008 ، وهي لم تنته حتى اليوم، وما زال العالم يعاني من آثارها وإرهاصاتها، المباشرة وغير المباشرة، حتى اليوم.
وبما أن مكاسب الحروب لها تداعياتها السياسية والأخلاقية!، وكونها لا تكفي لإخراج النظام الرأسمالي العالمي من أزماته البنيوية المستمرة باستمراره، لأن هذه الأزمات تتكون أصلاً وتعيش وتنمو قي كينونته، وهي جزء من طبيعته، فقد تم، ومنذ التسعينيات من القرن الماضي، تسخين الأسلحة غير النارية اللينة من خلال فرض ما يسمى العولمة، بما فيها، وعلى رأسها العولمة الاقتصادية، التي تطالب بفتح الحدود الاستثمارية والتجارية والجمركية أمام استثمارات وبضائع الدول الرأسمالية القوية، ليتم ذلك في إطار منافسة غير متكافئة، تؤدي في كثير من الحالات إلى إضعاف المجتمعات في الدول النامية والصغيرة والضعيفة، وتُخل بالعلاقة بين مواطنيها وحكوماتها، من خلال ما تتسبب من تراجع في العدالة الاجتماعية وخلل في تنمية القطاعات الاقتصادية الإنتاجية الوطنية. أما عن عولمة المؤسسات والمنظمات والقوانين والتشريعات الاقتصادية والتجارية، فهي بدورها تدويل فرضه القوي على الضعيف، فأصبحت العلاقات الدولية –كما يراد لها- علاقات تسلط رضوخ وإذعان وإملاءات، عدا عن كونها محاولات لنسف الحدود الوطنية والسيادية للدول الحرة المستقلة.
اليوم، وبالعودة إلى المرحلة الحالية التي يقود فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياسات النظام الرأسمالي، فهي ليست مرحلة ترامب بقدر ما هي مرحلة يجب أن يقودها رئيس أمريكي له كاريزما مثل شخصية ترامب، وبالتالي فإن الترامبية هي مرحلة سياسية اقتصادية يمر بها النظام الرأسمالي العالمي، لا يتغير فيها وجهه القبيح ولا أسسه الاستغلالية، بل مرحلة تتلون وتختلف فيها الأدوات والوسائل والطرق والآليات الكفيلة بتحقيق الأهداف الأزلية لهذا النظام، والتي من بينها وأهمها ضمان المصالح من خارج الحدود، عن طريق النهب المباشر لثروات الدول والشعوب الضعيفة والنامية عبر الحروب وتعهدات الحماية، وانتزاع جزء من القيمة المضافة التي ينتجونها في بلدانهم، عبر فرض الآليات والضوابط والشروط التي تخضع لها التجارة الدولية، وكل ذلك يأتي في إطار نقل التناقضات التناحرية الكامنة في كنه النظام و/أو حفظ مصالح الطغم المالية من داخل دول النظام الرأسمالي إلى خارج حدودها.
فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يصفه الكثيرون، بمن فيهم محللون أمريكيون بـ المجنون والمرعب وغير الكفء والخطير، وهو كذلك برأينا، إلا أن لهذه الصفات في القاموس الحالي للاقتصاد السياسي للنظام الرأسمالي أصبح لها مفاهيم أخرى، غير تقليدية، إنها التكتيك عبر الترامبي المستخدم لتنفيذ استراتيجية دفاعية عن وجود وكيان واستمرارية النظام الرأسمالي بشكل عام، وعن كيان وقوة وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية مركز الطغم المالية على وجه الخصوص، هذا التكتيك الذي ربما لا يُشترط له كما أراد مصمموه أن يعكس ذكاءً وحكمةً ورجاحة عقل في التصرفات الملموسة وحتى تلك التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
وبالتالي، صحيح أن ترامب كارثي وخطير، ولكن ليس على النظام الرأسمالي المتوحش بالمعنى الذي عبرنا عليه آنفاً، ولا على المصالح الأمريكية التي يمثلها أو الطغم المالية التي انتخبته ليمثلها، بل هو مرعب، هو كارثي وخطير على كل شيء عدا ذاك النظام وتلك المصالح. فمن يعتقد أن ترامب هو الذي يكتب تغريداته بيده، فهو غالباً مخطئ، وربما مُخطئ أيضاً من يظن أن الأخطاء اللغوية التي ترد فيما يكتبه ترامب، وبعض الغباء فيما يُصرح به، هي من حقيقة شخصيته أو محض أمرِ واقع ابتلي به الأمريكيون بهذا الرئيس، فاللوبي الصهيوني وكبار دهاقنة الماسونية العالمية والطغم المالية هم خلفه، وهم كانوا وما زالوا اليوم موجودين خلف أخطر وأهم أحداث العالم، وهم يُقارعون ويُصارعون اليوم أكثر من أي وقت مضى، الحراك المقاوم لأعداء سلوكياتهم من الدول الحرة المستقلة ذات السيادة، ويستذئبون لمواجهة الوعي المتزايد للشعوب المقاومة، المظلومة والمقهورة والفقيرة، وبالتالي فإن أو ربما وراء كل غباء فكرة خبيثة وخلف كل غلط تصرف أو قرار جسيم صيغ معدة مسبقاً لتصحيح هذا الغلط ومعالجته.
فخلال العقود السابقة، ومع تعاقب العديد من الرؤساء الأمريكيين بمختلف مشاربهم ومع تناوب حزبيهما الجمهوري والديمقراطي على استلام السلطة، لم يتجرأ أي عاقل ورزين منهم على ارتكاب ما ارتكبه ترامب بحق الأديان والقوانين والأعراف والمواثيق الدولية والسماوية، عندما نقل غصباً وزوراً السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وعندما ألغى تعسفياً اتفاقاً نووياً دولياً مع إيران، كما لم يتجرأ أي من هؤلاء الرؤساء الأمريكيين السابقين على فرض ولا حتى التلويح بفرض رسوم جمركية على الصين الشريك التاريخي التجاري الأهم وعلى حلفائه الأوربيين الذين يشكلون تاريخياً القاعدة الخلفية السرية والمعلنة لتمرير السياسات الأمريكية، بل ومنذ بضعة أشهر فقط لم يكن أي محلل سياسي ليتخيل أن ترامب سيجلس بعد حين مع رئيس كوريا الديمقراطية، ليتحدثا عن نزع الأسلحة النووية للدولة التي بقيت خلال العقود الماضية، ولأسباب آيديولجية، عصية على أي حوار مع أي جانب غربي.
فهل السياسات والتصرفات الأمريكية التي استبدل فيها الكابوي ترامب الحوارات بالتهديدات، والتصريحات بالتغريدات، والقلم الرئاسي المخصص لتوقيع القرارات السيادية بعتلة إطلاق الأسلحة النووية، هل هذه كلها يمكن وصفها بـــغباء شخص السيد الرئيس؟ هل يكفي أو من المنطقي أن يتم تبريرها بــالجنون وعدم الكفاءة، وهي التي جعلت التصرفات الأمريكية ألغازاً وأحجيات، ألا يفرض علينا منطق الأمور أن نعرف أو نشكك أن كل ذلك هو نتاج مطابخ سياسية سرية لا مرئية تمثل مصالح عالمية مالية ماسونية صهيونية، أعقل من ترامب وأكبر من إدارته الرئاسية، وأبعد من حدود ولاياته الأمريكية.
إن وصول السيد دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية لم يكن عبثاً سياسياً، وهو ليس خياراً انتخابياً محضاً ولا محايداً ولا بريئاً، لأن شخصيته كما هو عليها اليوم، وليسمها كل قارئ كما يشاء هي الشخصية الرئاسية الامريكية المناسبة لما يحدث اليوم وما يجب أن يحدث، ولما سيحدث خلال المرحلة القريبة والمتوسطة القادمة، إنه الرئيس الذي يمثل الخيار الأفضل للمرحلة الحالية التي يمر بها تطور النظام الرأسملي العالمي، والتي عنوانها إن صحت التسمية [خيارات وبدائل تجاوز الأزمات البنيوية للنظام الرأسمالي في مواجهة دول وتكتلات المحور الآخر]، لا سيما الأزمة الأخيرة التي انفلتت عام 2008، والتي لم تنته تداعياتها بعد، لا سيما إذا علمنا أن متوسط النمو الاقتصادي العالمي خلال السنوات الأخيرة لم يتجاوز 3%، وأن للدول الرأسمالية هاجس آخر يتمثل بنسب النمو الاقتصادي العالية التي حققتها الدول التي لا تقف في صف دول المركز الرأسمالي.
Discussion about this post