التمويل.. التحدي الأهم لتفادي “الصّحارى الإخباريّة”

العالم الاقتصادي – متابعات

أكد رئيس جمعية صحافة ومواطنة ومؤسسة المنتدى الدولي للصحافة جيروم بوفييه أن الصحافة العالمية ما زالت تواجه تحديات كبيرة على مستوى العالم وأهمها قضية التمويل.

وقال بوفييه في كلمته خلال اختتام فعاليات المنتدى الدولي الثاني للصحافة بمدينة الثقافة في العاصمة التونسية السبت إن السنوات الثلاث الماضية عكست الصعوبات التي تواجهها الصحافة على مستوى العالم خاصة في ظل جائحة كورونا التي عزلت العالم عن بعضه البعض، موضحا أن هناك قواسم مشتركة في كل الاتجاهات خاصة قضية التمويل، مطالبا باستمرار عمليات التمويل من أجل أن يستطيع الصحافيون القيام بعملهم بشكل مستقل دون أي تأثيرات خارجية.

ودعا بوفييه الممولين والشركاء إلى زيادة تمويلهم واستمراره من أجل النهوض بالمهنة لمواجهة التحديات الكبيرة التي نشهدها حاليا، مطالبا بدق ناقوس الخطر في قاعات التحرير بالصحف لعرض التحديات التي يواجهها الصحافيون للحصول على معلومة مستقلة.

وأوضح “نحن لا نملك عصا سحرية لكي نغير العالم ولكن الظروف الراهنة تتحكم في مجريات الصحافة العالمية وعلينا أن نرفع الغطاء عما يجري حولنا لنكشف الحقيقة بوضوح دون أي تأثير، وعلينا أن نصل إلى وسيلة مفيدة من أجل أن يعيش الصحافي حياة مزدهرة لاستكمال عمله بشكل جيد”.

وفي نفس الإطار أكد نائب رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في تونس فرانشيسكو ألكوسا أن الصحافة العالمية مرت بالعديد من الأزمات على مدار السنوات الثلاث الماضية وفي مقدمتها جائحة كورونا مما أثر بشكل كبير على المؤسسات الصحافية خاصة على المستوى المادي، بالإضافة إلى الحرب الدائرة حاليا بين روسيا وأوكرانيا مما كان له بالغ الأثر على الصحافة العالمية.

وقال ألكوسا خلال كلمة في المنتدى الذي شارك فيه 700 صحافي من أكثر 30 دولة إن “الصحافة العالمية تواجه تحديات كبيرة في ظل الظروف العالمية الراهنة”. وأضاف أن الصحافة تشهد العديد من المعوقات منها وجود لوبيات تستخدمها كسلاح لتوجيه الشعوب.

وأوضح أن الاتحاد الأوروبي يدعم حرية الكلمة وحرية التعبير من أجل الوصول إلى صحافة حرة تقدم معلومة مستقلة بدون أي تأثير في ظل التحديات الحالية.

ويجادل خبراء بأنه “كأي قطاع آخر تحتاج الصحافة الجيدة إلى تمويل جيد للاستمرار”. ويبرز التمويل كأهم تحدّ للصحافة للبقاء.

وبينما أظهرت جهات صحافية مرموقة مثل “الغارديان” في المملكة المتحدة إمكانية الاعتماد على دعم القراء وتمويل الأفراد من خلال عامل ثقة بين القارئ والمنصة الإعلامية يرتكز على المحتوى الجيد والحصري، وارتفع عدد الاشتراكات المدفوعة لدى صحيفتي “نيويورك تايمز” و”أتلانتيك” الأميركيتين، لم تتمكن منصات إعلامية عالمية وخاصة عربية من الاعتماد على تمويل القراء، فعامل الثقة لم يتحقق.

وشهدت العناوين انخفاضا بشكلٍ عام، في حين توثّقُ الأبحاث التي أجراها أكاديميون مشكلة “الصّحارى الإخباريّة” المتنامية في العالم مع انحسار الصّحافة.

وتشير آخر استطلاعات مركز غالوب للدراسات إلى أن غالبية الأميركيين فقدوا ثقتهم في الإعلام، وهي حالة تشمل الديمقراطيات الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا والنمسا والسويد وغيرها، وهذه نتيجة طبيعية في ظل انشغال وسائل الإعلام بتفاصيل الاستقطاب السياسي بين قوى سياسية متشابهة في حقيقتها، فقط لخلق الإثارة، وزيادة حجم المتابعة وطبعا التماهي مع المصالح المالية والسياسية المعقدة للممولين.

وتبرز في هذا السياق المنظمات الدولية والجهات المانحة كرافعة أساسية لاستمرار الكثير من المشاريع الصحافية.

وبحسب “ميديا إمباكت فوندرز” (Media Impact Funders) صرفت المؤسسات الدولية المانحة بين عامي 2011 و2015 مبالغ تزيد قيمتها عن 1.3 مليار دولار سنويًّا لوسائل الإعلام والصحافة في جميع أنحاء العالم، وشمل ذلك مثلا 250 مليون دولار كل عام لدعم تطوير وسائل الإعلام، و220 مليونا لدعم التقارير الصحافية المستقلة.

وفي العالم العربي تواصل بعض المؤسسات الصحافية عملها بمحاباتها لرأس المال والسلطات وتضحيتها بثقة القراء. ويعود السبب في ذلك ببساطة إلى كون التمويل محكوما برضا ومزاجية السلطات العربية أكثر من ارتباطه بحجم المتابعة ومستوى التأثير من الناحيتين التسويقية والتجارية.

ويؤكّد الصّحافيون وخبراء تطوير وسائل الإعلام أن هناك حاجة إلى المعلومات الجيّدة للحدّ من الفساد ومكافحة الاستبداد، وبالتالي هي بحاجة إلى استثمارات كبيرة للنّمو.

ويؤكد تقرير “إنقاذ الصحافة: استراتيجيّات عالميّة ونظرة على الصحافة الاستقصائية” نشرته مؤسسة “كونراد أديناور” أنه يتمّ اتّباع العديد من المقاربات المختلفة حول التمويل في جميع أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة تم الاتفاق حول فكرة دعم الحكومة للصحافة. وفي أجزاء أخرى من العالم تحوم شكوكٌ أكبر حول مشاركة الحكومة، في حين أن هناك رأيا آخر في الدول الفقيرة مفاده أن دعم الإعلام الجيّد يحلّ ثانيا في منطقة تفتقر إلى الكثير من الاحتياجات الأساسيّة.

والملفت أنه حتى عندما يكون هناك قلقٌ حيال مخاطر الدعم الحكومي، فإن المنصّات مستعدّة لقبول الأموال من المؤسّسات الكبرى، والحكومات الأجنبيّة (على شكل مساعدات إنمائيّة)، ومن غوغل وفيسبوك. وقال أحد الحاصلين على المنح “إن غوغل وفيسبوك يدفعان ما يكفي من المال لحمل الناس على عدم التشكّي منهما”.

ويخلق هذا السخاء التقني قلقا من تزايد الاعتماد على غوغل وفيسبوك اللذين يمكن أن يكون إحسانهما غير متوقّع كأي نوعٍ آخر من مصادر الإيرادات، ولا يأتي مع التزامات طويلة الأجل. كما أن شركات التكنولوجيا العملاقة تزيد من عطائها في المناطق التي تخشى فيها من التّنظيم (كما هو الحال في أوروبا) أو يطلب منها أن تدفع مقابل الأخبار (كما هو الحال في أستراليا).

ويبدو أن دوافعها في تمويل الصّحافة والبحوث الأكاديميّة قائمة على العلاقات العامّة والرغبة في شراء الرّضا. وتمارس شركاتُ التّكنولوجيا العملاقة ضغوطًا على الحكومات لوضع قوانين جديدة، وتنفق على المناصرة أكثر مما يدفعه أيّ قطاع آخر في الاتّحاد الأوروبي. ويتمكّن المناصرون من قطاع التكنولوجيا من الوصول إلى واضعي السّياسات بشكلٍ غير عادل، وتضخّمُ رسالتَهم مراكز بحثية وأطراف خارجيّة. ولذلك يجب أن تُعتَبر تبرُّعاتهم لوسائل الإعلام جزءا من مجهودهم الأكبر في العلاقات العامّة.

وهذا الخوف من قوّة الشّركات واحتماليّة السيّطرة على وسائل الإعلام مما قد يكمّم أيّ انتقادات لشركات التّكنولوجيا العملاقة يدفعُ الكثيرين إلى القول بأنه من الأفضل أن تدفع هذه الشّركاتُ المزيد من الضّرائب مع تخصيص بعض تلك الإيرادات الضريبية لدعم الصحافة الجيدة بدلا من أن تدفع الشّركات بشكل مباشر للمنصّات الإعلاميّة.

وفي حين أن هناك الكثير من الأفكار الجيّدة، إلا أن الأبحاث حول الخيارات التّنظيمية النّاجحة أقلّ، وكما هو الحال في المجالات الأخرى فليس من الواضح دائمًا أيُّ الخيارات ستنجح فعلا.