العالم الاقتصادي – متابعات
لطالما سوّقت سويسرا لصورتها في العالم باعتبارها «دولة محايدة»؛ مما يسمح لها باستضافة مفاوضات السلام بين الأطراف المتنازعة، ولم تكن الحرب العالمية الثانية استثناءً من ذلك، إذ إن سويسرا رسميًا لم تنضمّ إلى أحد الطرفين المتنازعين (المحور والحلفاء)، إلا أنّ «بلاد السلام» قد لا تكون محايدة لتلك الدرجة التي سوّقتها عن نفسها، وحتمًا لم تكن بريئة من الضلوع في الحرب واستغلال المأساة التي راح ضحيّتها أكثر من 70 مليون شخص خلال الحرب العالمية الثانية.
إذ تورطت بنوك سويسرا بصورة مباشرة في دعم نظام هتلر والاستيلاء على الأصول المالية لضحايا النازية؛ ويذهب بعض الباحثين إلى أن ازدهار ورفاهية سويسرا «بُنيا على دماء وأموال وثروات ضحايا الرايخ الثالث» وبالتحديد من اليهود.
رفاهية بأموال ضحايا الهولوكوست.. هل بنت سويسرا رفاهيتها على أنقاض المحرقة؟
في كتابه الذي حمل عنوان «سويسرا، الذهب والموتى» أشار عالم الاجتماع السويسري جون زيجلر إلى ضلوع سويسرا المباشر في دعم النظام النازي خلال الحرب العالمية وأثناء ارتكاب المحرقة ضد اليهود، ليس لأسباب عنصرية أو معادية للسامية بالضرورة، ولكن لدوافع الربح البحت؛ باعتبارها تمتلك أكبر بنوك العالم.
فمنذ 1943 وفي الوقت الذي امتنعت فيه بلدان محايدة مثل السويد أو البرتغال من استقبال سبائك الذهب من النظام النازي؛ تعاونت بنوك سويسرا مع النازيين واشترت منهم الذهب الذي كان ملكًا من العائلات اليهودية التي جرى تهديدها أو قتلها أثناء المحرقة والاستيلاء على أموالها ومجوهراتها، وفي المقابل وفّرت البنوك السويسرية للنازيين السيولة اللازمة التي ساعدتهم في الحصول على المواد الأولية التي افتقرت إليها ألمانيا بشدة خلال الحرب، وهو ما مكنها من الصمود لمدّة أطول، وقتل أكبر عدد ممكن من اليهود.
وبسبب الضغوط الدولية ضد بنوك سويسرا حول قضية أموال ضحايا النظام النازي المودعة في البنوك النازية، أُزيح اللثام عن جانب من هذه المسألة بعد أن عُيّنت لجنة من الخبراء التي اشتغلت على القضية بين عامي 1997 و1999 من أجل العثور على الحسابات البنكية لضحايا النازية.
لكن الخبراء عجزوا عن اكتشاف جميع جوانب القضية في ظلّ تمسّك بنوك سويسرا بمبدأ السريّة، لتجنب كشف تورّطها مع النظام النازي، ويقول بنك «كريدي سويس» بأنّه مستعد للتحقيق مجددًا في هذه المسألة، لكن الخبراء أشاروا إلى أن بنوك سويسرا «لم تكن متعاونة» في هذه المسألة، وأن هذه التصريحات مجرد ردة فعل على ضغط الإعلام والرأي العام؛ ولم تزل أبواب البنوك موصدة في وجه أي تحقيق في القضية.
ومن جانبه يقول الباحث في علم الاجتماع جون زيجلر إن هذه المعلومات التي توصل إليها بخصوص القضية تستند إلى وثائق من الأرشيف السويسري والألماني والنمساوي والأمريكي. ولكن ما الذي دفع السويسريين إلى التعاون مع النظام النازي المتورّط في ارتكاب مجازر ضد الأقليّات؟
ففيما يشير بعض الساسة السويسريين إلى أن الدافع وارء التعاون مع النازية يكمن في الخوف من مصير بولندا أو باقي الدول التي تعرّضت للاحتلال والإلحاق بـ«الرايخ الثالث» رجّح جون زيجلر أن المكاسب الاقتصادية والرغبة في الربح كانت المحرك الرئيسي لهذه الممارسات؛ إذ يشير إلى أن سويسرا لا تعدو أن تكون «بنكًا كبيرًا» يجري تسييره من نفس العائلات والشبكات المالية والسياسية منذ أكثر 200 سنة، وأن الواجهة السياسية التي تحمل شعار التعددية الديمقراطية ليست سوى واجهة تعبّر عن مصالح هذه الشبكات ذات السلطة المالية.
وتُوجّه العديد من الاتهامات في هذا الصدد ضد بنوك سويسرا ودورها المثير للريبة في دعم النظام النازي خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تقتصر البنوك السويسرية على حد استقبال شراء الذهب من النازيين، بل استولت على أموال الضحايا اليهود الذين نقلوا أموالهم إليها خوفًا من الاستيلاء عليها من طرف النازيين، وبعد سقوط نظام «الرايخ الثالث» وجدت بنوك سويسرا هذه الأموال «بدون صاحب» بعد قتل مُلاكها، وبالتالي تصل بعض الاتهامات إلى حد القول إن سويسرا بنت نهضتها وازدهارها الحالي ومستواها المعيشي المتقّدم والبنية التحتية التي تثير إعجاب جميع من يزور هذه البلاد، بتلك الأموال بالذات.
الطريق لا يزال طويلًا.. حين أرجعت سويسرا مليار دولار إلى ضحايا النازية
منذ سنة 1995 بدأت الجمعيات اليهودية بطرح قضية الأصول النازية المملوكة في الأصل لضحايا النظام النازي، والتي استولت عليها بنوك سويسرا، لتصبح المسألة قضية رأي عام عالمي، خصوصًا بعد أن دخلت الولايات المتحدة على الخط ودعمت هذه المطالب بعد العديد من القضايا التي رُفعت من طرف ضحايا النازية أمام القضاء الأمريكي، لتصبح سويسرا وبنوكها تحت ضغط وانتقاد عالميين شديديْن، وبدأت مطالبات عالمية بمقاطعة بنوك سويسرا ومقاضاتها، خصوصًا «بنك سويسر»، وبنك «UBS»، في تناقض لافت مع الصورة تلك التي سوّقتها سويسرا عن نفسها باعتبارها لاعبًا عالميًا محايدًا داعمًا للسلام.
ألمانيا النازية
وبعد سنوات من التحقيقات والضغط الإعلامي، أفرجت سويسرا عن مبلغ 1.25 مليار دولار وجرى الاتفاق على تسليمه إلى ضحايا المحرقة النازية في 12 أغسطس (آب) 1998، وقاد لجنة التحقيق المؤرخ السويسري جون فرانسوا بيرجي، بعد أن درست «لجنة بيرجي» قضية التعاون السري بين بنوك سويسرا والنظام النازي، خصوصًا قضية السبائك الذهبية التي اشتراها «البنك الوطني السويسري».
وفي الرابع من مارس (آذار) 2020 أشارت صحيفة «Le Temps» إلى اكتشاف صادم بطله المحقّق بيدرو فيليبوزي، الذي اكتشف قوائم تضمّ حوالي 12 ألف حساب بنكي لنازيين متعاطفين مع نظام الرايخ الثالث موجودة في بنك «كريدي سويس» السويسري.
ووجد فيليبوزي هذه الوثائق في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس؛ ومن المعروف أن الأرجنتين كانت إحدى أهم الوجهات التي هرب إليها النازيون إثر سقوط الرايخ الثالث وانتحار هتلر سنة 1945، من بينهم أدولف آيخمان وجوزيف مينجل وإريك بريك، هذا بالإضافة إلى شخصية محورية تدعى رودولفو فرويد، وهو المسؤول عن شبكة الدعم المالي التي استفاد منها النازيون الذين فرّوا إلى الأرجنتين قادمين من ألمانيا بعد الحرب، كما كان رئيس البنك الألماني الأطلسي، وقد حاول ابنه الحصول على هذه الأصول المالية، وقدم 14 طلبًا لبنوك سويسرا من أجل الاستفادة منها.
وتشمل قائمة الحسابات البنكية حسابات لأفراد بالإضافة إلى شركات أسستها مواطنون أرجنتينيون متعاطفون مع النظام النازي، ومن بينها شركة «إي جي فاربن» المتهمة بتزويد النظام النازي بالغاز الذي استُخدم في قتل اليهود في معسكرات الاعتقال، وهناك تقديرات تشير إلى أن حجم هذه الأموال يبلغ 35 مليار دولار، ولكن هذا الرقم لم يجر التأكد منه بعد.
ولم يكن ضحايا النازية منْ فشلوا في الحصول على أموالهم فحسب، بل إن العديد من البلدان العربية والإفريقية فشلت في استرداد الأموال المنهوبة من طرف الزعماء السياسيين بعد الربيع العربي، وذلك بسبب سياسة بنوك سويسرا التي تعمل على تصعيب هذه المهمة.
يتعلّق الأمر بمحاولات استرجاع أموال الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الذي تحاول تونس استرجاع أمواله المنهوبة منذ 10 سنوات إلا أنها لم تنجح في ذلك، بسبب الإجراءات التقنية والقضائية المعقّدة، والأمر نفسه مع الزعيم الليبي معمر القذافي، والرئيس المصري حسني مبارك، ورئيس كوت ديفوار لوران جباجبو والمحيطين به.
Discussion about this post