العالم الاقتصادي – رصد
تمثل قضية الدين العام إحدى الإشكاليات الأساسية التى تحتاج الى معالجة وإدارة دقيقه لتحقيق التوازن بين متطلبات النمو والتنمية وبين ارتفاع معدلات المديونية وزيادة أعباء خدمة الدين التى أصبحت تستحوذ على نسبة كبيرة من ميزانيات العديد من دول المنطقة، ويطرح تقرير التنمية العربية بعنوان «مديونية الدول العربية الواقع والمخاطر وسبل المواجهة» والذى شارك فيه معهد التخطيط القومى بمصر والمعهد العربى للتخطيط عدة بدائل وسيناريوهات لمشكلة ارتفاع المديونية والتى ترتبط ارتباطا وثيقا بتمويل المشروعات التنموية وقدرة الدول على الاستمرار فى رفع معدلات النمو وخلق فرص العمل الى جانب مناقشة هيكل المديونية وأسباب الاستدانة وحوكمة إدارة الدين العام ،وذلك من خلال نظرة على الواقع ورؤية للمستقبل لعلاج المشكلة والتمكن من إدارتها بكفاءة من خلال نماذج واليات اكثر فعاليه وتأثيرا.
وتبرز إشكالية المديونية فى الوقت الراهن والتى كان لها تاريخ طويل فى التراث الاقتصادى والاجتماعى لدول المنطقة فى حقبه الثمانينيات والتسعينيات، وذلك بعد الارتفاع الكبير فى حجم الدين الخارجى للدول المتقدمة والنامية على حد السواء والتى انعكست على تراجع معدلات النمو الاقتصادى العالمى وساهم فى تأجيجها زيادة تقلبات أسعار المواد الأولية، وتداعيات أزمة كورونا التى عصفت بجهود العديد من الدول للإصلاح وشكلت أعباء إضافية على ميزانيات الدول التى تحملت حزما مالية للتحفيز والحد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة ،بحيث أصبحت قضية المديونية قضية عالمية تعانى منها الدول المتقدمة والنامية وان كانت بدرجات متفاوتة وحذر من مخاطرها المؤسسات المالية الدولية ومنها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى حيث وجهوا أنظار العالم الى أهمية إدارة أزمة الديون المرتفعة وحثت مجموعة العشرين على أهمية تمديد وتحسين مبادراتها لتخفيف أعباء الديون للدول الفقيرة مع استمرار ازمه كورونا ومتحوراتها ،مقدرين ان 60% من البلدان منخفضة الدخل معرضة لدرجة مرتفعة من مخاطر المديونية الحرجة ،موضحة ان عام 2022 سيكون أصعب كثيرا من سابقه فى ظل تشديد الأوضاع المالية الدولية مما يتطلب مزيدا من الجهود الدولية للسيطرة على الأزمة.
بدائل غير التقليدية لتمويل التنمية
ويعرض تقرير التنمية العربية البدائل غير التقليدية لتمويل التنمية والتى تنشأ عن القطاعات التمويلية التقليدية الممثلة فى النظام البنكى والأسواق المالية والتى يمكن ان تعتمد عليها الحكومات العربية لتخفيف الضغط على موازناتها العامة ومصادر التمويل التقليدية، وذلك باعتبار ان الدول العربية لن تتمكن من تقليص الفجوة المالية الحالية دون تفعيل قنوات مالية جديدة من أهمها مبادلة الديون بالملكية والتوريق والصكوك الإسلامية والشراكة مع القطاع الخاص والتمويل الجماعى وسندات المهاجرين، حيث تمتلك معظم الدول العربية قطاعات ومشروعات يمكن ان تستغل لتخفيف عبء الدين بما يسمح بتحويل الدين الى أداة ملكية سواء حصة فى شركة او مشروع او اسهم، كما يعد التوريق أداة مبتكرة لحشد الأموال لصالح موازنة الدول وسد الفجوة التمويلية وذلك من خلال تجميع مجموعة من الديون المتجانسة والمضمونة كأصول ووضعها فى صورة دين واحد معزز ائتمانيا، ثم عرضه للاكتتاب فى شكل أوراق مالية تقليلا للمخاطر وضمانا للتدفق المستمر للسيولة.
وبهذا يتحول الدين الى أوراق مديونية متنوعة فى شكل سندات وبذلك تتم إعادة هيكلة الدين العام وهى آلية نجحت فى العديد من الدول . كما تعد الصكوك الإسلامية إحدى آليات وبدائل معالجة الدين وهى تشبه السهم فى الاسواق المالية وتحقق مرونة كبيرة فى العمل لتلبية احتياجات الدول التنموية الى جانب الصكوك الخضراء ،بينما تمثل الشراكة بين القطاع العام والخاص أحد نماذج العمل التى توفر مصادر تمويلية وإدارية ناجحة من خلال أشكال وعقود شراكة مختلفة تناسب كل دولة واى مشروع .كما يأتى ما يعرف بسندات المهاجرين كمصدر تمويل هام سواء من خلال تحويلات العاملين بالخارج او من خلال استثماراتهم فى بعض القطاعات الاقتصادية حيث يتم تحويل هذه الموارد المالية الى أداة استثمار لتمويل التنمية بشكل منظم وفعال وخاصة من خلال طرح سندات خاصة لهذه الفئة من المهاجرين. كما يؤكد التقرير أهمية اتخاذ خطوات ملائمة لتنمية أسواق المال حيث توفر هذه الأسواق فى حال تفعيلها آلية لتمويل المصروفات بعيدا عن اللجوء للبنوك المركزية لتمويل العجز .
ويوضح التقرير ان الدول العربية تعمل على إطالة عمر محفظة الدين لتجنب مخاطر إعادة التمويل او عدم القدرة على التمويل مما يستوجب ان تصدر الدولة أدوات مالية أو أوراق الدين لآجال متوسطة وطويلة وذلك حتى لا تقع الدول فيما يعرف بمصيدة الديون وهى عبارة عن حلقة مفرغة من استخدام الديون فى تسديد المصروفات والمتطلبات الجارية دون استخدامها لأهداف تنموية مما يترتب عليه عدم وجود مردود اقتصادى لهذا الإنفاق وبالتالى استمرار الحاجة الى مزيد من الاقتراض لسد عجز الموازنة وتغطية النفقات الجديدة .
تراجع الإنفاق الرأسمالى
ورصد التقرير تراجع الإنفاق الرأسمالى لحساب الإنفاق الجارى على مستوى الدول العربية حيث يمثل الإنفاق الجارى 81% من اجمالى الإنفاق العام وذلك لتلبية الاحتياجات الأساسية لهذه الدول .موضحا ضرورة الاتجاه الى مزيد من الإصلاحات الهيكلية وزيادة الإيرادات والصادرات فى القطاعات الإنتاجية التى تتميز بها الدول العربية ومنها الصناعات التحويلية والغذائية .
ويعتبر التقرير ان المديونية الخاصة بالدول العربية تستنزف الموارد المالية فى خدمة الدين على حساب الإنفاق على قطاعات ذات أولوية مثل التعليم والصحة
وشهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية فى مديونية الدول العربية أدت الى زيادة العجز الهيكلى فى موازنات العديد من الدول بالإضافة الى تراجع الفوائض المالية الكبيرة التى كانت تحققها الدول العربية النفطية .
مصر والمنطقة
ويشير الدكتور محمد معيط وزير المالية الى أن الأوضاع الاقتصادية العالمية الصعبة تعانى منها الدول النامية والمتقدمة وفاقم منها استمرار أزمة كورونا حيث تعانى معظم دول العالم ارتفاع معدلات التضخم وتراكم المديونية وارتفاع عبئها مما يفرض قيودا على قدرة الحكومات على تمويل برامج التنمية الاجتماعية، ويتطلب تضافر الجهود لتجاوز هذه الازمة . وقال ان المديونية العالمية للدول الناشئة ارتفعت بنحو 17% والدول الكبرى بنحو 20% خلال ازمة كورونا بينما شهدت نسبة الدين للناتج المحلى لمصر زيادة طفيفة رغم السياسات التنموية التوسعية غير المسبوقة التى تمت ،موضحا ان معدل الدين بلغ 91% بنهاية العام المالى 2020-2021 ونستهدف خفضه إلى 89.9% يونيو المقبل ليصل إلى 85% فى يونيو 2024 فى ظل التزام الحكومة بالمسار النزولى لخدمة الدين التى تراجعت من 40% بنهاية 2020 الى 36% فى يونيو 2021 ونستهدف وصوله الى 32% خلال موازنة العام المالى الحالى .
وقال ان موازنة العام الحالى تعمل بشكل أساسى على تحقيق التوازن بين دعم النشاط الاقتصادى فى قطاع الصناعة مع الحفاظ على الانضباط المالى وانخفاض معدل الدين الحكومى للناتج المحلى، وتطوير نظم إدارة المالية العامة للدولة وتعزيز حوكمه المصروفات والإيرادات ورفع كفاءة الإنفاق العام وتعظيم الاستفادة من موارد الدولة.
ويشير احمد كمالى نائب وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية ان مصر تبنت نموذجا متكاملا لمعالجة أزمة المديونية من خلال برنامج الإصلاح الاقتصادى الوطنى بمرحلته الاولى والثانية من خلال العمل على حسن ادارة الموارد وتحسين الاستثمارات العامة وتوجيهها نحو أولويات الدولة لتحسين مستوى معيشة المواطنين وخلق فرص العمل ،حيث بلغت الاستثمارات العامة العام الجارى نسبة 75% من الاستثمارات الكلية بزيادة تصل الى 535% والتى لعبت دورا محفزا للتنمية الاقتصادية ورفع معدلات النمو الاقتصادى فى ظل تداعيات ازمه كورونا .
وأشار الى ان الدولة تتخذ عدة إجراءات لحوكمة الدين العام حيث تم تشكيل لجنة عليا لإدارة الدين العام وتنظيم الاقتراض الخارجى والتى وضعت ضوابط ومعايير يتم الالتزام بها فى طلب القروض .وقال ان الدولة تعمل على تنويع مصادر تمويل الخطط والبرامج التنموية من خلال توسيع قاعدة التمويل بالمشاركة مع القطاع الخاص والصناديق السيادية ،موضحا ان الصندوق السيادى المصرى يساهم فى تنويع مصادر التمويل واستغلال أصول الدولة ومواردها .كما اطلقت مصر السندات الخضراء فى إطار رؤيتها لتعدد مصادر التمويل كما يتم العمل على إصدار تقرير وطنى عن التمويل من اجل التنمية موضحا ان الدول تلجأ للاستدانة كتمويل عملية التنمية لعدم كفاية المدخرات المحلية لتمويل احتياجات الدول والشعوب المتزايدة من الاستثمار والإنفاق العام.
واشار الى ان التقرير العالمى للدين العالمى الصادر عن البنك الدولى اوضح ان اجمالى حجم الدين الخارجى لدول الشرق الاوسط وشمال افريقيا وصل الى 370 بليون دولار فى 2020 ،بينما اشار تقرير التنمية العربية الى ان زيادة مديونية الدول العربية بنسبة 6% سنويا وفى نفس الوقت انخفض حجم هذه المديونية للناتج المحلى من 47.5% فى 2005 الى 43.5% فى 2018 وذلك يرجع الى ارتفاع الناتج المحلى الاجمالى للدول العربية بمعدل اكبر من معدل الزيادة فى الدين .
واكد كمالى الحاجة الى تحقيق الانضباط المالى الى جانب تنفيذ الاصلاحات الهيكلية لدعم النمو والحد من عجز الموازنة وتطوير بدائل غير تقليدية لتمويل التنمية وتوجيه اغلب موارد الدين العام لتمويل الاستثمار وزيادة القيمة المضافة للأنشطة والمشروعات الإنتاجية.
ويقول دكتور علاء زهران رئيس معهد التخطيط القومى ان قضية المديونية تعد جزءا من قضية اكبر وهى قضية تمويل التنمية فى الدول النامية ومنها الدول العربية والتى تتخطى فى بعضها نسب المديونية الخارجية والداخلية لقيمة الناتج المحلى مما يعرضها لمزيد من الأزمات ويفاقم من عجز الموازنة ويجعلها مضطرة للجوء الى مزيد من الاستدانة .واشار الى ان ضرورة ان تكون قضية ادارة الدين على سلم أولويات متخذى القرار فى الدول العربية بحيث تأخذ فى الاعتبار المتغيرات العالمية والإقليمية والمحلية بما يمكن من معالجتها من خلال التركيز على قضايا الدارة الحديثة للدين والفجوة بين الاستثمار والادخار والصادرات والواردات والحيز المالى وآليات التمويل البديلة ومعالجة كافة الاختلالات الهيكلية. ويشير الدكتور بدر مال الله مدير المعهد العربى للتخطيط ان قضية المديونية لم تعد تختص بها الدول غير النفطية بالمنطقة فقط بل امتدت للدول النفطية فى ظل تقلبات أسعار النفط الحادة ،موضحا ضرورة طرح بدائل مختلفة لمعالجة المديونيات بشكل مستدام يراعى خصائص كل دولة والتفاوتات القائمة للوصول الى حلول فعالة وقادرة على مواجهة هذه المشكلة.
Discussion about this post