العالم الاقتصادي – د.عبد الشفيع عيسى
حصل ثلاثة من الاقتصاديين أخيرا على جائزة نويل التذكارية فى علم الاقتصاد، لأبحاثهم عن سوق العمل، وقبل ذلك حصل باحثون آخرون فى السنوات الماضية عن موضوعات مختلفة من قبيل الاقتصاد السلوكي وسلوك المستهلك وبحوث الفقر والمضاربات.
<span;>وقد أثار ذلك نقاشا جادا وغنيا بين مثقفينا النابهين، تجاوز حدود الجائزة المذكورة إلى علم الاقتصاد نفسه. وتركز النقاش حول مدى «علمية» علم الاقتصاد. وفى هذا المضمار يثور أمامنا السؤال:هل الاقتصاد علم أصلاً ؟
<span;>وإذا كان علما بحقّ- وهو ما يمكن القطع به على مدى زمنى طويل يمتد ليس لعشرات السنين فقط ولكن ربما لمئات- فهل هو علم وضعى positive على طريقة العلوم الطبيعية؟.في هذه العلوم الأخيرة يستخدم المنهج الاستقرائي أداة يُتَوسّل بها للتوصل إلى نتائج قابلة للبرهنة، بدءا من الملاحظة ثم وضع الفروض، فإجراء التجارب المعملية أو غير المعملية، وانتهاء بالتحقق من مدى صحة الفرض، إثباتا أو نفيا، تمهيدا لصياغة الاستنتاجات.
<span;>هل علم الاقتصاد بهذا المعنى علم وضعي بحت أو تجريبي، ومن ثم يكون محايدا من الناحية الاجتماعية، بلا توجه إيديولوجي من أي نوع، فيكون، كما يقال، خاليا من القيم؟.
<span;>أم ان علم الاقتصاد في حقيقته ليس من قبيل العلم الطبيعي، التجريبي أو الوضعي، فيكون من قبيل العلم التجريدي القائم على استخدام طريقة الاستنباط كما هو الحال في الرياضيات وعائلتها الممتدة إلى الإحصاء والقياس؟ وفي هذه الحالة الأخيرة يكون علم الاقتصاد فكرا خالصا منبت الصلة بعالم التجارب التطبيقية؟.
<span;>أم أن علم الاقتصاد ليس هذا أو ذاك، وإنما هو علم اجتماعي، موضوع دراسته المجتمع في شريحة من شرائحه الحية، شريحة الثروة ومن ثم الناتج أو الدخل، إنتاجا وتوزيعا وتداولا واستهلاكا؟ وإن كان ذلك كذلك، وهو ما نميل إليه، فهو إذن ليس محض علم تجريبي أو طبيعي، ولا هو تجريدي محض أو فكر خالص، وإنما هو مزيج من الأمرين معا: تجريب وتجريد، استقراء واستنباط، ثم إن هذا العلم، إن استخدم التجربة، فهو لا يستخدمها أو يستنسخها في المعمل أو في حقل العينة الإحصائية، وإنما معمله هو المجتمع نفسه، وإنّ حقله الدراسي ليمتد على طول وعرض التاريخ الاجتماعي، الإنساني بالذات، ولذلك سُمّي «الاقتصاد السياسي» بحق.
<span;>أما من يرون في علم الاقتصاد مجرد ميدان للتطبيقات والتجارب دون فكر اجتماعي يستجيب لاحتياجات المجتمع ومطالبه الأساسية، فهؤلاء يعزلون الاقتصاد عن محيطه «الطبيعي»، أي الاجتماعي، ومن يرون في الاقتصاد علما لحل التمرينات الرياضية والقياسية، أي علما يحتفل بالمنهجية الكمية دون فكر اجتماعي شامل، فهؤلاء أيضا يعزلونه عن النظرية وعن الممارسة في آنٍ معا. وفي الحالين، يرونه علم الاقتصاد فقط، دون نعته الحقيقي «السياسي أو الاجتماعي».
<span;>ولأنّ الاقتصاد علم اجتماعي ـ إنساني، فهو علم غنيّ حقا منذ نشأته الأولى، حيث حفل بالتنوع الفكري الممثل للتطورات الاجتماعية والدولية في كل حقبة، في إطار المسار العام للفكر الغربي الرأسمالي من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. وقد شهد القرن الأخير في أواسطه نشوء وازدهار تيار آخر مختلف من داخل الفكر الرأسمالي بمعناه العريض، وهو التيار «الكينزي» ـ نسبة إلى جون ميناردكينز ـ الذي أدخل مفهوم «تدخل الدولة» ليوازن تيار «حرية السوق» السائد إلى حد بعيد من البداية حتى اليوم. وفي مواجهة الكينزيين و «مابعد الكينزيين» الداعين إلى التدخل ودولة الرفاهة في أوروبا وأمريكا منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين حتى سبعينياته عموما، رجعت الكلاسيكية الجديدة-القديمة في ثوب قشيب لتجدد مذهب «حرية الأسواق» باسم «الليبرالية الجديدة». وقد حدث ذلك خاصة من خلال «النقديين الجدد» وما يسمى «بمدرسة شيكاغو»، بزعامة ميلتون فريدمان، في عودة كاسحة متعددة المسميات والشعارات فيما عرف «بإرثوذكسية السوق»، التي يتبناها ثنائي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بقوة منذ مطالع الثمانينيات.
<span;>أما عن الفكر الاقتصادي الاشتراكي، فحدّث ولا حرج، ابتداء من كتاب «رأس المال» بمجلداته المتتابعة لكارل ماركس، الصادر في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر.ولايزال شلال التيارات المعارضة لإرثوذكسية السوق (أو أصولية الأسواق) قائما يتدفق تحت رايات ليست «اشتراكية»، ومن أحدث موجاته خلال الأعوام الأخيرة كتاب توماس بيكيتي «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، بالإضافة إلى تجديدات متنوعة من قبيل المدرسة المؤسسية وغيرها.
<span;>هذا، ولقد اطلعت على قائمة الحاصلين على جائزة نوبل «التذكارية» في العلوم الاقتصادية منذ إنشائها (1968/1969)، فوجدت أعلاما لا يُشقّ لهم غبار، خاصة في البدايات، من قبيل راجنار فريش ويان تبنبرجن وجونار ميردال وبول سامويلسون وفاسيليليونتييف وميلتون فريدمان وأرثر لويس وروبرت سولو ودوجلاس نورث وأمارتيا سن وجوزيف ستيجلتز، حتى بول رومر في 2018 وغيرهم. ولكن هذه استثناءات لا يقاس عليها، فيما يبدو، إذ حاكت الجائزة التحيزات العقائدية لمؤسسيها ومانحيها من السويد، وبنك السويد المركزي. هذه التحيزات تتجلى في التركيز على ذوي المنهجيات من خلفيات مؤمنة في غالبيتها بأصولية السوق من «النيو كلاسيك» بصفة خاصة، وذوي النزعة التطبيقية والتجريبية والكمية على ظواهر جزئية متفرقة من المجتمعات الرأسمالية الحديثة في المقام الأول. كل ذلك، مع ندرة نادرة لممثلي الاتجاهات الأخرى في علم الاقتصاد مثل ذوي الخلفية الكينزية أو المؤسسية.أما الاتجاهات ذوات الميول «غير الرأسمالية ـ الغربية» عموما، فيمكن لنا أن نزعم أنها لم تُمثّل أصلا. فهل يمكن ان نحلم بمثل جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية، ولكن على المستوى العربي العام، لتقدم لنا الطيف العريض للاقتصاد كما ينبغي له أن يكون؟.
Discussion about this post