محمد النجم – وليد أبو السل
منذ أن أطلقه السيد الرئيس بشار الأسد في 20 حزيران 2017 خلال جلسة لمجلس الوزراء فرضَ مشروع الإصلاح الإداري نفسه على طاولة البحث والنقاش على كافة المستويات كخيار استراتيجي لتطوير العمل الإداري في المرحلة المقبلة، بما يتجاوز حالات الخلل والضعف ويواكب رضا المواطن السوري، ويستجيب في ذات الوقت لتطورات ومتطلبات العصر وجديده في مجال التنمية الإدارية عبر جملة من المشاريع والقوانين والخطوات والأولويات، بالشكل الذي يتيح الانتقال السليم إلى مرحلة سورية ما بعد الحرب ومرحلة إعادة البناء والإعمار بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وبكل ما تقتضيه من عمل وجهد صادق ومتقَن.
لكن إلى أين وصلنا في هذا المشروع منذ تلك الانطلاقة وحتى اليوم؟ ما الجديد الذي سيحقق النقلة النوعية المرجوة في جسم الجهاز الحكومي وبالتالي يحقق قفزات نوعية في البنية الاقتصادية السورية؟ هل ثمة صعوبات ورياح معاكسة لسفينة هذا المشروع؟ كيف سيكون المواطن إحدى البوصلات التي تهتدي بها هذه السفينة؟ هل سيكون لدينا خارطة موارد بشرية تتاح للجميع؟
حملنا كل هذه الأسئلة وغيرها وتوجهنا بها إلى وزيرة التنمية الإدارية الدكتورة سلام سفّاف التي تحدثت لـ” العالم الاقتصادي” بإسهاب وبصراحة عبر هذا الحوار الخاص:
ما الغاية أو جوهر مشروع الإصلاح الإداري الذي أطلقه السيد الرئيس بشار الأسد منتصف العام الفائت في جلسة مجلس الوزراء؟
سابقاً كانت هناك عدة محاولات للتطوير والإصلاح الإداري، بعضها كان صائباً وبعضها الآخر لم يكتب له استكمال بنوده، والجديد في هذا المشروع فهو عبارة عن استراتيجية قُسّمت إلى ثلاث مراحل، واستراتيجيات النمو والإصلاح هي استراتيجيات سبعية بمعنى أننا كل سبع سنوات نضع نهضة معينة، ويُطلب في نهايتها أن يحقق الجهاز الحكومي والمنظومة الاقتصادية والإدارية والاجتماعية قفزة معينة تُقاس، والجديد هنا أن هنالك استراتيجية لسبع سنوات وهي موزعة على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس وتعني المراحل الأولية للمشروع وتتضمن مرحلة التأسيس والحضانة والاستقرار والنمو، وهي مقسمة على مدة زمنية من سبعة إلى ثمانية أشهر، وبمفهوم الإصلاح هنالك ما يعرف بعام “الصفر” وهو العام الذي لا ننتظر منه أي إنتاج، وهو عملية “رصف” الأرضية للمشروع وزراعة الأسس، وجديد المشروع هو برنامجه التنفيذي وسلم أولوياته، وأولويته الأولى هي منظومة “قياس الأداء الإداري”.
اليوم في فلسفة الإدارة عندما تريد أي دولة في العالم القيام بالإصلاح الإداري فإنها تنهج نهجاً معيناً، النهج اليوم في سورية قام على “الدراية” التالية بأن واقع الجهاز الحكومي بمعنى الإدارة العامة هو واقع مستقر ومليء بالثغرات ومترهل، نتيجة أنه ومنذ أكثر من 80 عاماً، ومنذ تأسيس مديرية المعارف ومديرية الداخلية في العشرينيات لم يطرأ عليه أي تطور جذري حتى بشأن القوانين، فإذا أخذنا قانون الموظفين في الدولة كان أفضل من قانون العاملين لأنه تضمن نظام المراتب الوظيفية، بعد ذلك لم يقترب أحد من كتلة الإدارة العامة في سورية لا توظيف ولا آليات التعيين ولا أنظمة داخلية دقيقة ولا استجابة لمعطيات الإدارة وتطوراتها ونظرياتها الحديثة وإدارة الموارد البشرية، فبقي هذا الجسم الحكومي يتمدد ويستطيل ويستقطب أناساً على أسس غير واضحة ويرقي أناساً على أسس غامضة وغير واضحة لا تخلو من المحسوبية والواسطات، وهكذا إلى أن جاءت الأزمة في سورية وبات من الضروري على الجهاز الحكومي إعادة هيكلة ذاته، ليس من باب الترف بل من باب الضرورة لإعادة بناء مقومات صمود الدولة والاستجابة لمتطلبات ما بعد الحرب، واليوم فإن الإصلاح الإداري يتضمن إعادة هيكلة الجهاز الحكومي في ظل غياب الهيكل الإداري للجهاز الحكومي وغياب خارطة الموارد البشرية، فاليوم لا أحد يعلم كم يبلغ عدد العاملين في الدولة من الفئة الأولى والثانية وما هو المؤهل النوعي لهم وليس لدينا خارطة موارد بشرية في الدولة، وبالتالي كيف بالإمكان معرفة فائض العمالة في الدولة؟ وبالتالي هناك مشكلات بنيوية في جهاز الإدارة العامة.
كل هذا الواقع أفرز ممارسات ودورات مستندية غير سليمة، ويتوجب لصاحب معاملة أن يتحمل عبئاً كبيراً ووقتاً طويلاً وربما واسطة حتى ينجزها، لكن هدف المشروع هو التبسيط، ومن هنا جاءت الحاجة إلى مشروع الإصلاح الإداري الذي أطلقه السيد الرئيس بشار الأسد منتصف العام الفائت، لذلك يجب أن نرى بعين الواقع وبدون مجاملة واقعنا الإداري، فالواقع الإداري في سورية غير مطمئن على الإطلاق، وقياساً بأقرب دولة جوار، هنالك مدخلات وهنالك مخرجات، فاليوم في سورية وللمرة الأولى بُنيت منظومة لقياس الأداء الإداري تسمح لأن تعطي مؤشرات لأي جهة حكومية بمكامن الخلل وتعطيها إرشادات لتكمل الطريق، وما يميز هذه المنظومة أنها لم تُحدث من قبل وهي غير مرتبطة بإحداثات سابقة، هي منظومة للإدارة العامة، واليوم لدينا خمسة مؤشرات أساسية تشكل العلل الأساسية في العمل الإداري في سورية، والتي هي التنظيم المؤسساتي، فحين تذهب إلى معمل تجد أن هيكله التنظيمي مثل إدارة مركزية في وزارة التنمية الإدارية( مديرية ودوائر وشعب) وهذا لا يصح.
المؤشر الثاني هو تبسيط الإجراءات أو الخدمات التي يحتاجها المواطن، وبالتالي ما الإجراءات المطلوبة التي تقوم بها الدولة لتقديم الخدمة للمواطن والإجراءات التي يجب أن يقوم بها المواطن لسحب الخدمة؟ هنا توجد تكاليف اقتصادية خطيرة ونحن نسميها “عطالات اقتصادية”، حين يكبر الجهاز الحكومي يضطر لإضافة إجراءات جديدة، فنتيجة التضخم أصبحت الوثيقة تمر على 10 أشخاص بدلاً عن ثلاثة، إذاً هناك تكاليف اقتصادية لأداء الخدمات وهناك تكاليف اقتصادية يتكبدها المواطن، وإذا قمنا بسحب المبررات من بعض الخدمات التي تقدم للمواطن وخاصة منها التي تحتاج إلى دورة كبيرة؛ فإننا سنجد أن هنالك فائضاً اقتصادياً أو وفورات اقتصادية هائلة مثال: هنالك وثيقة “غير عامل” في الدولة (بعد إلحاق سجل العاملين للدولة إلى وزارة التنمية الإدارية) والتي من المفترض أن تكون خدمة (حكومية– حكومية) نسبة 90% من تداولاتها فمعظم المعاملات الأخرى تحتاج إلى هذه الوثيقة( جواز سفر-عقد لثلاثة أشهر-..)، هذه الوثيقة حتى تحصل عليها (لاسيما خلال المسابقات) على سبيل المثال مسابقة وزارة التنمية الإدارية التي تقدم إليها 1000 متسابق ،ولن نقول مسابقة وزارة التربية التي تقدم لها 23 ألف متسابق.
هؤلاء الـ 1000 متسابق يحتاجون إلى هذه الوثيقة والتي تصل تكلفتها مابين 400 إلى 600 ليرة سورية، هذا بالإضافة إلى أجور النقل والمواصلات التي تدعم الدولة وقودها، فإن كل هذه التكلفة يمكن الاستغناء عنها من خلال أتمتتها في الجهة العامة وبشكل مبسط تمنح على أي وثيقة بعد إلصاق إشعار عليها وبشكل سريع هذا على مستوى وثيقة واحدة فقط فما بالك بباقي الوثائق، هذا هو تبسيط الإجراءات وانطلاقاً من ذلك فقد طلبت الوزارة في خطة التنمية الإدارية من الجهات العامة الأخرى أن تضع خدمة على الأقل بتبسيطها الفعلي وفق معايير محددة، وفي هذا الإطار سنقوم بإنجاز “الدليل الوطني للإجراءات المبسطة” وفق معايير تقارب “الآيزو الوطني” نسميها المعايير الوطنية لتبسيط الإجراءات لمعرفة تبسيط أو عدم تبسيط الخدمة ومدى رضا المواطن عنها وبذلك ننهض سويةً كجهاز حكومي.
المؤشر الثالث: هو مكافحة الفساد والذي هو بالحقيقة عن نافذة جديدة لإعادة صياغة العلاقة ما بين الجهاز الحكومي والمواطن، وهنا تكمن الأهمية بأن المواطن أصبح شريكاً في عملية الإصلاح الإداري وذلك من خلال تطبيق موبايل اسمه “منبر صلة وصل”، إذ يقوم المواطن بوضع بياناته ونحن كوزارة نتعهد له بالسرية المطلقة لمعلوماته، يملأ البيانات إلكترونياً سواء كانت الشكوى (فساد مالي-طلب رشوة- خلل إداري- سوء تطبيق قوانين وغيرها، ثم تعود إلى الوزارة إلى مركز قياس الأداء الإداري الذي بدوره يرسلها إلى الجهة المعنية والتي حدث فيها الخلل لتقوم بدورها بقراءة الشكوى خلال 36 ساعة وإن لم تقرأ تلك الجهة الشكوى بعد المدة المحددة فإنها تدخل “بالاحتساب الزمني”.
ما الغاية من عملية القياس هذه؟
الغاية من الموضوع القياسي هي معرفة مدى استجابة كل جهة حكومية لأي شكوى تصلها علماً أن منظومة قياس الأداء الإداري هي منظومة إلكترونية بالكامل لا يتدخل فيها العنصر البشري على الإطلاق، فبدل أن يتدخل 1000 شخص مختص بالإدارة فإننا نستبدلهم بهذه المنظومة، وهذه هي معايير الإدارة الإلكترونية أن نحول هذه الخبرات إلى معايير إلكترونية من خلال أتمتتها، أصلاً ليس هناك معاملات ورقية بيننا وبين الجهات العامة الأخرى ولا أي ورقة على الإطلاق؛ فالعملية بالكامل إلكترونية وهي ذاتها تقوم بعملية القياس هذا بالإضافة إلى منظومة الاحتساب، وهنا عندما يعود جواب الجهات العامة على شكوى المواطن نقوم بإرسالها إلى المواطن مرة أخرى لمعرفة مدى رضاه عن الجواب والخدمة المقدمة له وذلك وفق معايير ستكون معلومة لدى الجميع، وهذا الأمر سيتيح لنا تقييم أي خدمة على معايير موضوعة، وذلك من أجل مساعدتنا على كشف الخلل في الخدمة بالإضافة إلى رضا الموظف الذي يعرب عن نقاط الضعف بإدارة الموارد البشرية لتلك الجهة.
أما غاية القياس ليس التقييم على الإطلاق حتى لا نأخذ بعراك التقييم؛ فاليوم الغاية هي الكشف عن الخلل الإداري بالمعنى التقني لمعالجته والنهوض سويةً، وهذا اسمه تقييم أداء مؤسساتي لأننا نرى أنه أوْلى من تقييم الأداء الفردي وفي المشاريع القادمة فإن تقييم الفرد مرتبط بتقييم أداء المؤسسة فواجبه اليوم أن يعرف بأن مؤسسته ضمن التنافسية الوطنية، فأنا اليوم أطمح لأن تكون التنمية الإدارية من الوزارات الرائدة أو العصرية، على الرغم من القناعة بأن كل من يعمل يخطئ وهذا أمر طبيعي.. فعند السعي نحو الكمال لا ينبغي رفض السماع للنواقص، بمعنى أن وزارة التنمية الإدارية كاملة بالتالي لا أسمح لأحد بأن ينتقدها (علماً بأن وزارة التنمية الإدارية هي من أكثر الوزارات التي تتعرض للنقد اليوم) فهذه حالة طبيعية لأن كل شيء جديد يخلق جدلاً، وكل ذهنية جديدة تخلق جدلاً، فالنقد من طبيعة الأمور، “والتجريح” أحياناً من طبيعة الأمور لأن هناك أشخاص لا يعرفون ممارسة النقد بعقلانية وإن كانوا لا يعرفون النقد لماذا نلومها؟، فعندما يأتيك شخص لا يستطيع الفصل بين الخاص والعام فإنه معذور بأن يجرح وينتقد، ونحن نرى ذلك بعين المحبة، وكل شيء جديد يتعرض للنقد، من هنا تأتي ثقافة مقاومة التغيير كأن أقول مثلاً بأن وزارة التنمية الإدارية عملت كذا… وكذا بقانون ما فأكون بذلك قد أشرت لك بأن هذا القانون وتعديلاته ليس جديداً، ومجتمعنا اليوم مجتمع عاطفي وناقل للأخبار، وهو ما وصفه ابن خلدون بذلك في مقدمته.
فالمسؤولية على مستويين: المستوى الأول هو إيجاد خطوات الإصلاح الأساسية، أما المستوى الثاني فهو بناء الحوامل الثقافية والاجتماعية والنخبوية للمشروع، واليوم ليس المطلوب من الجميع أن يفهم تقنيات المشروع، لكن يجب أن يعلم الجميع بأن المشروع هو “عتلة” المؤسسات للمرحلة القادمة وأحد عتلات استقرار المنظومة الحكومية بالكامل، وهو أيضاً صياغة جديدة لمستقبل سورية ما بعد الحرب.. من خلال العلاقة مع المواطن وسماع صوته في القامشلي كما سماع صوته في دمشق، لأننا استفدنا من التكنولوجيا ومن التطبيقات كي يتواصل المواطن مع الوزارة مباشرة وبالتالي ستصل شكوى هذا المواطن إلى بريد الوزير.
النقطة المهمة والغاية الجوهرية في المشروع أن نقوم ببناء المؤسسات في العاصمة دمشق يتم على ذات معايير ومؤشرات بناء مؤسسات في ريف إحدى المدن، فطبيعة تطور الدول اليوم أن تتركز المجتمعات الحضرية في المدن، الآن وقبل الأزمة لدينا تفاوت في الأداء المؤسساتي ما بين المدن والأرياف من حيث حجم الخدمات، فنجد أن الأداء المؤسساتي قوي في الإدارات المركزية وضعيف في الفروع، وتجد إحدى المؤسسات قوية وأخرى غير قوية أو فرعها غير قوي كونه بعيد عنها، لأن الموارد البشرية تعمل في ظروف مغايرة، وهناك بيئة مجتمعية وثقافية وتعليمية أنتجت هذه الموارد البشرية، وقد تكون حصة التدريب وما آل إليه أقل، فهذا يؤدي إلى تفاوت إضافة إلى أنه لا ضغط على الخدمات في بعض المدن الأصغر من العاصمة والمراكز التجارية فنجد انها تتنشط أكثر.
فالجديد في المشروع أنه يقوم على “مبدأ التنمية المتوازنة” ما بين المدينة والريف، فلا تقاس على أساس وزارة والجهات التابعة؛ بل على أساس كل وحدة إدارية مستقلة مالياً وإدارياً بما فيها المديريات (نسميه الهيكل الرابع للمديريات)، فمديرية الزراعة في الرقة تقاس بذات المؤشرات والإدارات التي تقاس بها الإدارة المركزية لوزارة الزراعة في دمشق، فالمطلوب هو الاستجابة للمؤشرات بشكل متساوٍ، وبعد فترة من الزمن ستكون المؤسسات الفرعية قد تقدمت لأن أحجامها تسمح لها بالتطور السريع حتى لو كانت بعيدة.
في الكلمة التي ألقاها السيد الرئيس بشار الأسد بتاريخ 20/6/2017 ذكر التدريب الإلكتروني وغايته إعادة البرامج التدريبية عدة مرات، وسيحل مركز خدمة الكوادر البشرية في الدولة محل السجل العام للعاملين في الدولة وفق القانون الجديد لوزارة التنمية الإدارية، وهذا مشروع إصلاحي بنيوي.
وقد وجّه السيد الرئيس بموضوع التدريب الإلكتروني حتى نحقق وفورات اقتصادية ويصبح بإمكان الجميع الدخول، وهو جداً مفيد وغير مكلف على الإطلاق وهو متاح لجميع العاملين في الدولة لكي يتمكنوا من تعلم اللغات وبناء قدرات ذاتية.. الخ، وسننتقل من بعدها إلى التدريب الإلكتروني التخصصي وفقاً لتوجيهات السيد الرئيس، وأيضاً هيأنا أنفسنا لموضوع التدريب الافتراضي أسوة بالجامعات الافتراضية ومراكز التدريب العالمية، والتي ستمكن الجميع من الاستماع إلى الجلسات التدريبية، الأمر الذي سيحقق وفراً اقتصادياً كبيراً، وكلما سرّعنا في هذا الجانب، وأصبح هناك تفهم للمشروع كلما هدأت مقاومة التغيير بانتظار بدء قطف ثمار المخرجات الأولى للمشروع ومن بعدها يتم الانتقاد وليس التقييم.
كلما كان هناك تفهم وأيادٍ ممدودة للمشروع، بمعنى أن تهدأ مقاومة التغيير أو انتظرت حتى تبدا مخرجات الثمار الأولى للمشروع وبعدها فليبدأ الانتقاد وليس التقييم.
مثال: إذا أردنا أن نقيّم معملاً للنسيج في حلب يجب بداية إقامة المبنى ثم نحضر الآلات ثم المواد الأولية، هل تستطيع أن تقول أن المعمل قد أنتج؟ بالطبع لا.. والمشروع كحال المعمل.. لقد جهزنا كل شيء.. فتأسيس معمل يحتاج إلى أكثر من عام ونصف، فكيف الحال إذا أردنا أن نؤسس مشروعاً وطنياً للإصلاح الإداري بهذا الحجم، وبهذه الرؤى وفي هذا التوقيت وبهذه الدرجة من مقاومة التغيير.
عندما تعمل الآلات أليس من المتوقع أن يحدث شيئاً غير متوقع كأن لا يستمر معك عامل، ويمكن أن يسمى أول إنتاج المشروع “إنتاج الصفر” في المعمل وهو لا يحكم عليه، وبالتالي قد يكون بحاجة إلى آلة صغيرة أو تغيير إحدى المواد الأولية أو تغيير تصميم، لكن هو جيد.
نحن بحاجة إلى هدوء في التعاطي مع الأمر فالمشروع استراتيجي حضاري وهو امتداد مرحلة تاريخية وهو منعطف تاريخي في حياة الإدارة العامة في سورية.
مثال: معايرة مرشحين لمنصب نائب الوزير، نحن لدينا معايير لاختبار الأشخاص إذ إنه من غير المعقول في أي دولة في العالم أن يعمل كل شخص في الشأن العام أو الإدارة العامة، فلكل مكان هناك توصيف وظيفي، وهو عبارة عن تنظيم لمراكز العمل والكوادر البشرية بأن تحضر الشخص المناسب للمكان المناسب، وعندما تقوم هذه المشاريع بوضع معايير ترشيح لأشخاص في مكان ما، وهي ستحد من الواسطة والمحسوبيات وبالتالي تسمح بوصول النخب الأفضل.
لا يمكن إقامة مشروع إصلاح إداري في جهة واحدة لأن المعنيين كل الجهات العاملة في الدولة والشركات، لكنه لا يمكن أن يتم دون وجود جهة مسؤولة عن التخطيط والمتابعة والتنفيذ والقيام بالعبء الأكبر، ومن هنا جاء تأسيس وزارة التنمية الإدارية التي أنيط بها خدمة المشروع وتحقيق كل مقومات التنفيذ له وذلك بالتعاون مع الجهات المعنية الأخرى.
لاشك أن لمشروع الإصلاح الإداري عدة أولويات وعدد من المشاريع الأخرى.. حبذا لو نتحدث عن هذه الأولويات والمشاريع..
إن المشروع الوطني للإصلاح الإداري يتضمن عدة أولويات منها إصلاح بنية الوظيفة العامة وهو يتضمن إصلاحها من
خلال الصكوك التشريعية وإحلال ثلاثة قوانين محل قانون العاملين الأساسي، وهذا يتطلب دراسة هوية الوظيفة العامة للمستقبل، ولهذه الغاية فقد قمنا بتشكيل فرق العمل ومجلس الخبرة القانونية، وفرق العمل هي عبارة عن ممثلين من كل الجهات العامة من خريجي كلية الحقوق أو القانون العام ممن مضى على تعيينهم أكثر من خمس سنوات في الدولة، بالإضافة إلى الفريق التنفيذي الذي سيعمل على سبر عيوب قانون العاملين الأساسي في الدولة ومنعكساته ومدى مواءمته مع مختلف القطاعات الاقتصادية والإدارية بكافة تفرعاتها، أما النقطة الثانية سنذهب باتجاه هوية الوظيفة العامة في سورية هل هي هوية مغلقة أم تعيين فقط أو نظام مفتوح أو نظام مختلط؟ وما هي قواعد هذا النظام مهما كان؟
هنا يبرز سؤال.. هل نذهب باتجاه قانون “خدمة مدنية” أو “خدمة عامة” كما ورد في الدستور كمظلة ونتيح للقطاعات المختلفة إصدار أنظمة عمل وعاملين تتواءم مع اختصاصهم كالقطاع الإنشائي الخدمي أو الإنتاجي الأمر الآخر، اليوم لدينا ثلاثة قوانين، لدينا على مستوى دول المنطقة العربية ودول الجوار الإقليمي منظومات حققت قفزات نوعية بأنظمة في الإدارة العامة فأصبح لديهم قوانين موارد بشرية وقوانين خدمة عامة، بالنسبة لنا ليس لدينا اليوم توصيف وتصنيف للوظائف العامة في الدولة وبالتالي لا أحد يعلم عدد الوظائف العامة في الدولة وليس لدينا خارطة شواغر ووظائف، هناك دول قريبة من سورية لديها مواقع إلكترونية فيها دليل إلكتروني مؤتمت موصفة ومرمزة فيه الوظائف ومعروف عددها وهي متاحة لكل الناس وهذا إنجاز ومتاح لكل الناس وليس سراً.
هناك موظفين في جهات عامة لا يعلمون إن كان هناك نظام داخلي وعندما نقول بأن الوضع غير مريح.. نحن نعني ما نقصد، لهذا من المفترض أن يعود نظام المراتب الوظيفية إلى قانون الخدمة العامة، والذي سيتيح مسارات وظيفية واضحة.
ومن المفترض في قانون الخدمة العامة أن يتضمن قانون الموارد البشرية إجراءات وأصول التعيين وتحسين أشكال المسابقات وسياسات الإحلال الوظيفي وسياسات الخروج الآمن ومعالجة كاملة لكل القضايا العامة للعاملين، بالإضافة إلى أنظمة التدريب والتأهيل وما آلت إليه كلها في قانون الموارد البشرية.
وما يغيب عن الإدارة المحلية في سورية هو قانون تنظيم مؤسساتي أو صك تشريعي أقل منه يحل محل النظام الداخلي النموذجي، في ظل غياب أنواع الهياكل التنظيمية وكيف تحدث المؤسسات وشروط إحداثها أو دمجها أو إلغائها وإحداث مديريات وهياكل تنظيمية، لدينا نظام داخلي نموذجي جيد، ولكنه غير كامل على الإطلاق فيه القواعد التأسيسية الأولى فقط لا غير، وينقصنا أيضاً صك تشريع خاص بمبادئ السلوك العام وأخلاق الوظيفة العامة.
هناك في دول المنطقة العربية صدّروا لكل قطاع أخلاقياته، فتجد في القطاع الإعلامي مثلاً وثيقة سلوك وثيقة ووثيقة تعهد ويمكن أن يعاقب إذا خالفها ، لذلك عندما نقول أن وضعنا الوظيفي العام غير مريح فهو بالفعل غير مريح هذا فقط على صعيد إصلاح بنية الوظيفة العامة.
بقي لدينا الصكوك التشريعية والإجراءات وهو ما نعمل عليه من خلال مأسسة مشروع أتمتة البنية الوظيفية أي بمعنى إصدار بطاقة إلكترونية مؤتمتة لكل موظف تحتوي كل مسار عمله وترفيعاته وتنقلاته وغيرها وهذا المشروع يحتاج إلى عامين.
لاشك أن لأي مشروع معوقات وتحديات ونحن اليوم نشهد بداية مرحلة ما بعد الحرب ونجد أن خريطة الموارد البشرية في سورية حتى الآن غير مستقرة وغير موزعة بشكل كامل ومنتظم ما بين الأرياف والمدن فنجد تركز الكوادر في مراكز المدن ما أحدث فائضاً في الكوادر في مكان ونقصاً في مكان آخر.. فهل لحظ مشروع الإصلاح الإداري تشخيص الواقع القائم والوقوف عليه كي يحقق خطوات تؤدي إلى نجاحه بالتوازي مع أهمية تطبيق ومتابعة الجانب الإلكتروني والافتراضي؟
اليوم مخرجات المشروع هي خارطة موارد بشرية وخارطة شواغر وظيفية وكذلك التدريب المتوازن، الأزمة أحدثت تغير ديموغرافي على مدى سبع سنوات، فمخرجات كل العملية التي تحدثنا عنها (التوصيف- المسالك- تحسن الأداء المؤسساتي) ستكون النتيجة هي حل هذه القضايا، هي ليست سبب حتى نعالجها، فأثناء تعقد المشاكل هناك أسباب لمعالجتها ولدينا مظاهر عن الأسباب نحن نذهب إلى المظهر واليوم يقول البعض: إذا أردنا مكافحة الفساد يجب علينا محاسبة بعض الأسماء المعروفة والمتورطة في الفساد وتنتهي المشكلة، في الواقع هناك أسباب قانونية وبيئية تنظيمية تولد الفساد حين يتم توقيف الشخص المفسد وهو إجراء رقابة لاحقة لا بد منه ولكن لم نعالج جوهر المشكلة.
فالعمل الإداري أو الإدارة العامة هو عمل كمي وليس كيفي وليس فقط تشخيصي فقط بل هو ملامسات ومقاربات، لكن اليوم لدينا مشاكل ولدينا أسباب لهذه المشاكل ولدينا ظواهر ونتائج، نحن نعمل بعلم ومنطق على معالجته، ولكن هل يلامس المواطن ذلك مباشرة، بالتأكيد يحتاج ذلك من ثلاث إلى أربع سنوات إذا عملنا يداً بيد.. هناك عمل وهناك مظاهر عمل، ومن خلال المشروع الذي نعمل عليه وهو مشروع الإصلاح الإداري هناك ثلاثة قوانين مرتبطة بعضها ببعض، بمعنى آخر هناك مجموعة مرتبطة بعضها ببعض عندما تقوم بالتعديل بمادة دون الأخرى فتكون قد أخلت بجزء من إنتاجية المشروع.
هل سنصل إلى وقت لا يستطيع فيه الوزير أو المسؤول أن يختار الأشخاص أو يتجنى على معاونيه وتنتهي فيه المحسوبيات باختيار المواقع الوظيفية؟
عندما نقول إن وضعنا الإداري غير مريح لا يعني ذلك أن وضعنا سيء، هناك كوادر بشرية في سورية ممتازة وقد عملت ووصلت، أما أن نصل إلى مرحلة خالية من المشاكل 100% هذا مستحيل وهذه مدينة (أفلاطونية)، اليوم نطمح أن نصل إلى ممارسات مستقرة على قواعد وأسس ومعايير، وعندما تستقر هذه الممارسات تصبح لدينا أعراف مؤسساتية عريقة وبالتالي ينشأ لدينا شيء يعرف “بالعيب” أي لا يجوز أن يعامل هذا الشخص اليوم حتى ولو كان إجرائياً وقانونياً بهذا الشكل وهذا ما يعرف بالبعد الحضاري في العمل.
إن مجتمعنا قد مر بهذه المرحلة في السابق وهي مراحل ازدهار وهذا الأمر غير مخل بالقانون أو غير شرعي لكن يقولون عنه أنه “عيب” أي أن هناك حالة حضارية ما بعد القانون وما بعد قواعد الدين، هذا الذي نعمل للوصول إليه في العمل المؤسساتي أي أن يشعر المفسد بأن ما يقوم به عيباً وليس عملاً أخلاقياً وهذا ما يسمى “بعصرنة المجتمع المؤسساتي” ونقله إلى حالة حضارية.
كيف بالإمكان أن نضمن تفاعلاً حقيقياً من قبل الموظف والمواطن مع هذا المشروع؟
سيكون للمواطن في المستقبل آلية جديدة للتعبير عن رأيه وعن مكان الفساد أو “التيه الإداري” أو عن مظلمة، وبالتالي نحن بحاجة إلى ممارسة حضارية وثقافة وهدوء في ظل وجود ضوابط ومثال على ذلك إذا جاء مواطن وتقدم بشكوى وتبين بالمستقبل أنها شكوى كيدية هل تخرب الدنيا؟ بالطبع لا..
فنحن في وزارة التنمية الإدارية يتوجه إلينا نقد وقد يلفت نظرنا هذا النقد، ويدلنا على موقع خلل في الوزارة فالغاية اليوم هي معالجة هذا الخلل وخلق نوع من أنواع التنافسية المؤسساتية لا أكثر ولا أقل.
هل تودين إضافة شيء حول المشروع لم نتطرق إليه؟
علينا أن ننظر بعين الرحمة للمجتمع، فهو يحتاج إلى مؤسسات دولة لكي تتطلع بعين الصمود للمستقبل، وسورية تستحق مؤسسات قوية هذا من جانب واحد، أما الجانب الثاني فنحن بحاجة إلى الهدوء والصبر ومعرفة ودراية بالعمل، جميعاً يتحدث في جلسات بأشياء يعرفها ولا يعرفها وهنا ينتج لدينا ثقافة معادية للمشروع، نحن مع النقد لكن المشروع يتطلب هدوءاً وتعاوناً وتريثاً وعدم استعجال بالأحكام ومد اليد الأخرى إليه.
عندما يبرز لدينا خلل في المشروع نعمل على معالجته وتغييره ومن يعمل يخطئ، ونحن حريصون على العمل وعلى مراجعة مراحل المشروع للوقوف على الأخطاء ومعالجتها وهذا من طبيعة الحياة وطبيعة الانتاج، إن العمل والإيمان والصبر يوصل الأمور إلى خواتمها الايجابية.
هل من كلمة أخيرة للإعلام ودوره في هذا المشروع؟
المطلوب من الإعلام توضيح مفاهيم آليات عمل المشروع وتبسيطها لتصل إلى المواطن، الأمر الآخر هو المساهمة في بناء حوامل إيجابية للمشروع .
الأمر الثالث.. إن كان هناك نقد للمشروع أو عدم قناعة فأبواب الوزارة مفتوحة لسماع الرأي والرأي الآخر ضمن أدبيات الاتصال والعمل الإعلامي والإداري، في النهاية أنا لا أفهم بالإعلام أكثر من الإعلامي ولا الإعلامي يفهم بالعمل الإداري أكثر من العاملين في وزارة التنمية الإدارية.
Discussion about this post