بقلم: ماجد الخطيب
أقول بحرفية مهنية إن البحث من خلال الحلول التقليدية لتحسين الواقع المعيشي للموظفين الحكوميين في سورية، يقود أي محلل اقتصادي للنتيجة نفسها: لا توجد موارد كافية وإن أي زيادة مهما تكن صغيرة فستكون حقنة جديدة لإنعاش التضخم الذي بالكاد تخدره آنياً الإجراءات الحكومية التقشفية، وهذا ما يستدل عليه من القصة المرضية لتآكل سعر الليرة المزمن أمام العملات الصعبة خاصة الدولار وغيرها من المبررات التي يمكن وصفها بالواقعية، لكل من لا يزال إلى الآن يفكر من داخل الصندوق بالطريقة ذاتها منذ فترة ما قبل الأزمة.. بل منذ عقود.
الواقع إن التوجهات والسياسات والخطط الحكومية، لا تزال تنظر لكتلة الموظفين كشريحة واحدة يجب ألا يأتيها الباطل من أي جهة، لاسيما من جهة الكم العددي الذي يجب أن نحافظ على مستواه بغض النظر عن الاحتياجات الفعلية من الكادر الحكومي، ودون الاقتراب من “قدسية الشواغر” التي ربما يعود بعضها إلى فترة ما بعد الاستقلال أو لم يعد لبعض منها أي معنى وظيفي كالعمل على الآلة الكاتبة مثلاً، وأجزم أن العديد من هذه الشواغر تفتقر لأسس التوصيف الحقيقي للعمل الحكومي الذي يجسد متطلباته الفعلية، وبعيدة كل البعد عن معايير إدارة الموارد البشرية الحديثة، وهي أقرب ما تكون لترجمة دور الدولة الأبوي في الحد من البطالة، وفي استمرار ما يشبه الإرضاع أو التقوّت لما يقارب من ربع عدد السكان أي الموظفين وعائلاتهم تحت بند الدور الاجتماعي للدولة.
هذا النهج التقليدي اصطدم منذ بداية الأزمة بوقائع غير تقليدية تتمثل اليوم بعدد من التحديات الداخلية والخارجية التي جعلت يد الحكومة قصيرة عن تأمين الموارد الكافية لزيادة الرواتب لمواكبة الحد الأدنى للمعيشة، ويبدو الأفق مسدوداً على المدى المتوسط في ظل عدم جدوى التحايل على الحوامل المالية التقليدية، كرفع الدعم عن المحروقات وغيره، الأمر الذي قد يؤدي لتداعيات لا تتوقف عند اختلال السوق بالمزيد من التضخم، بل قد تصل لتوقف عجلة الإنتاج الذي يتم تشغيلها بصعوبة بالغة في ظل مفاعيل الحصار الدولي التي ازدادت حدة خلال السنتين الأخيرتين.
الواقع إنه من الأهمية بمكان تغيير السياسات التقليدية المتبعة في إدارة الملفات الحكومية ولاسيما الصعبة والمعقدة منها، كملف العمل الإداري الحكومي الذي يجب أن تنتقل إدارته من الاعتماد على السياسات الكمية في التوظيف المشجعة للكسل والخمول الوظيفي إلى تبني السياسات النوعية التي تعتمد على اختيار الكادر الوظيفي الكفء وتركز على بنائه وتنميته، وتنظر للدولة كرب عمل حقيقي وللعمل الحكومي كمؤسسة إنتاجية تبدأ من أعلى القمة (إنتاج الأفكار الإبداعية ووضع السياسات الواقعية وتحديد أدواتها التنفيذية والرقابية بدقة)، وصولاً إلى الجهات التنفيذية المعنية بتنفيذ الإجراءات الحكومية وتسيير معاملات المواطنين على أحسن وجه، والتي يجب أن ينظر إلى مخرجاتها كسلع ذات قيمة تخضع لشروط التنافسية من حيث الكلفة والجودة، وأن لباقة وحيوية الموظف على سبيل المثال يجب أن تعد أحد عناصر هذه الجودة وأن مستوى جودة ما يقدمه الموظف يجب أن يرتبط بمسار تطوره الوظيفي.
في النتيجة فإن ترجمة هذه الأفكار المفتاحية على أرض الواقع والتي يمكن وصفها بالبراغماتية، وفتح عين المعايير الوظيفية سيكشف للعيان مئات الألوف من الموظفين القابعين في دائرة البطالة المقنعة، الذين يتقاضون رواتبهم لمجرد قضاء ساعات العمل بطريقتهم الخاصة، ويشكلون عبئاً على خزينة الدولة ناهيك عن الكلف المترتبة على متطلباتهم من الصحة والنقل والكهرباء والماء والمنظفات وغيرها، ولا يتوقف خطر وجود هذه الكتلة البشرية الخاملة على الناحية المالية، إذ إن الروح التنافسية بين العاملين هي المتضرر الأكبر في ظل الأنظمة والقوانين النافذة التي لا تتضمن أي آليات للتمييز بين من يعمل ولا يعمل، وعليه فإن المحصلة الطبيعية لهذا الخلل التنظيمي يتمثل بتراجع الإنتاجية وتدهور الجودة وهي مشكلة واضحة في معظم المنتجات التي يقدمها الموظف الحكومي للمواطنين عند تسيير معاملاتهم، ولاسيما أن قسماً من الموظفين وجد في تراجع قيمة دخل الموظف مبرراً كافياً لتخفيض مستوى أدائه.
من هذا المنطلق فإنه يجب أن نخرج بحل منطقي يحافظ على الكوادر البشرية المنتجة، ويحصن الكفاءات الوظيفية من مزاحمة غيرهم المسجلين على سلم الرواتب والأجور، وفي الوقت نفسه يخرج من تحت الوصاية الحكومية كتلة ضخمة من الموظفين غير المنتجين، ويمكن في سياق الحفاظ على الدور الاجتماعي، إحالة هذه الكتلة إلى نوع من التقاعد المبكر مع جعل فرصة الرجوع للعمل الوظيفي قائمة في حال الحاجة إليها، وفي حال حافظ المتقاعد على كفاءته من خلال المتابعة أو التدريب الذاتي، ويمكن وضع هذه الشريحة تحت مظلات حماية أخرى غير العمل كعالة على الجهات العامة كما هو الآن، كإدراجها على سبيل المثال ضمن المستفيدين من قروض المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغر، الأمر الذي يسهم بدب النشاط بهذه الكتلة البشرية، والتخلص من الكسل والخمول وأساليب التحايل على النظم الإدارية والصحية، ويعطيها ميزة أنها محمية براتبها التقاعدي النسبي الذي يؤمن لها جزءاً من الدخل، ويساعدها في الحصول على القروض وغيرها.
في النتيجة فإنه بغض النظر عن قيمة الوفر المتحقق من هذه الخطوة والذي قد يبدو للبعض ضئيلاً في ظل التضخم الحالي، إلا أنه يفتح المجال لزيادة دخول الموظفين من ذوي الكفاءة، ويؤسس لمرحلة جديدة من العمل الوظيفي يمكن وصفها بالجدية تشكل بيئة داعمة لخطط الإصلاح الإداري والتنمية البشرية، وهذا بالنتيجة يجعل من تحسين الواقع المعيشي للموظفين أمراًُ ممكناً أكثر من قبل.
Discussion about this post