العالم الاقتصادي- رصد
تتعامل شركات غافام مع الفضاء السيبراني كأرض جديدة صالحة للاستغلال، على غرار الشركات المنجمية أو البترولية، ولكنها لم تستخرج بترولا ولا نحاسا بل معلومات مستخدمي الإنترنت. وبذلك تحوّل الويب إلى فضاء تجاري وطريقة حكم تقوم على اللوغاريتمات، فتتصرف في المصائر والسلوكات تصرّفَ الأسياد مع رعاياهم زمن الإقطاع، وما لبثت أن تحوّلت هي نفسها إلى منظومة إقطاعية.
استبشر العالم بالثورة الرقمية، كثورة أنثروبولوجية ثالثة أدخلت الـ”هومو سابينس” في عالم جديد ألغيت فيه المسافات، وتوطّدت العلاقات، وبدا أن المعاملات أيسر من ذي قبل، وأن المستجدّات قادرة على تقديم الأجوبة الشافية لكل مشكلة، ولكن ما لبثت هذه الثورة أن تكشّفت عن مساوئ كبرى فاقت ما توقّعه جورج أورويل في روايته الشهيرة “1984”.
ولئن أوضح بعض المحللين دور هذه الثورة في خلق مجتمع رقابة، وتوجيه سلوكيات الفرد وميوله، فإن آخرين كشفوا عن آفات أخرى لا تقلّ عنها خطورة، من أهمها المظهر الاحتكاري للشركات العملاقة “غافام” (غوغل، أبل، فيسبوك، أمازون، مايكروسوفت) وطابع أساليبها العدواني للسيطرة على الحياة الفردية والجماعية.
التغيير عبر التدمير
لفهم الدور الحقيقي لعمالقة الإنترنت في حياتنا اليومية، ينبغي الوقوف على الدينامية الداخلية للعلاقات التي تربط تلك الشركات بالمجتمعات البشرية، ودورها في الرأسمالية المعاصرة. بمعنى آخر ينبغي تبين الاقتصاد السياسي للمنظومة الرقمية ومرتكزات هذا العامل الذي صار محوريا في التنظيم الاجتماعي. ذلك ما قام به عالم الاقتصاد الفرنسي سدريك دوران في كتاب بعنوان “الإقطاع التكنولوجي”.
في كتابه حلل دوران طرق اشتغال الاقتصاد الرقمي للكشف عن العلاقات الاجتماعية التي يفترضها ذلك الاقتصاد، وبين أن تلك العلاقات شبيهة بالاقتصاد الإقطاعي، فالصلة بين الشركات الرقمية متعددة الجنسيات والشعوب هي في رأيه علاقة الأسياد برعاياهم، وسلوكهم الإنتاجي أقرب إلى الاستيلاء الإقطاعي منه إلى التنافس الرأسمالي.
مصير الرأسمالية ليس مجتمع بشر أحرار كما ادعى الليبرتاريون بل هو عودة إلى شكل المجتمع الإقطاعي
وقد بسط دوران دراسته تلك لتشمل التطور التاريخي للرأسمالية من جهة، وطبيعة الاقتصاد الرقمي من جهة ثانية. وفي رأيه أن هذا التحليل الثنائي هو الذي يسمح بفهم “فرضية الإقطاع التكنولوجي” التي توهم بأن الرقمنة تمثل ذروة الرأسمالية الحديثة، والحال أنها سوف تُدخل العالم في انتكاس كبير.
يجد هذا الانتكاس جذوره في الأيديولوجيا التي فرضت نفسها في التسعينات باسم الأمل التكنولوجي، وسمحت بتدعيم الحركة النيوليبرالية وتسريع نسقها، إذ تلا توافقَ واشنطن في الثمانينات توافقُ “وادي السيليكون” الذي وعد بكفاية الرأسمالية ونجاعتها، وحمل نفس المتطلبات السابقة، أي وضع الدولة في خدمة رأس المال، والقيام بإصلاحات هيكلية تخص مرونة الشغل والأسواق والتمويل، وهي الثيمات الطوباوية لمرحلة السبعينات، تلك التي كان هدفها إعادة منح الثقة للرأسمالية.
ومن هنا جاء الإلحاح على “التدمير الخلاق” كوسيلة لذلك التغيير المتجدد. غير أن الإنجاز العملي لتلك الأيديولوجيا الكاليفورنية يخالف أساطيرها المؤسسة الخمس، كما بيّن دوران.
أولا، إن إعادة تقوية الفعالية عن طريق الستارت آب (وتطلق على الشركة الناشئة المجددة في مجال التكنولوجيات الحديثة على الإنترنت) ولّدت احتكارات ضخمة تحوّل فيها الجموح والجرأة إلى شراهة ضارية للاستحواذ على مشاريع الآخرين، أي أن استئناف التنافس في الثمانينات الذي ارتبط بالتطور التكنولوجي كان وجيزا.
ثانيا، إن الاستقلالية في العمل تحوّلت إلى مراقبة عامة وتعزيز للسلطة السياسية للشركة. ثالثا، إن الوعد بثقافة انفتاح وحركة انقلب إلى عملية استقطاب متنامية بين المناطق التي انتفعت بتلك التنمية وبين التي تُركت جانبا. ورغم الخطب المطمئنة، فإن المجتمع الرقمي فرض وجوده في بعض المراكز الحضرية فقط، فتبخرت فكرة تعديد نماذج من “وادي السيليكون” عند اتصالها بالواقع، ما أوجد تفاوتا اجتماعيّا وجغرافيّا أهمله مسعى لا يرى سوى حصة الخاسرين في “التدمير الخلاق”. رابعا، إن الوعد بازدهار عامّ لم يحصل، فرغم مظاهر التجديد، استُنفدت مكاسب الإنتاجية، ما اضطرّ الرأسمالية إلى الضغط على العمل، فعمّقت بذلك التفاوت. خامسا، إن الوعد بتراجع الدولة لم يتمّ فالشركات الرقمية لا تزال حتى اليوم في حاجة إلى دعمها.
الإقطاعية الرقمية
سدريك دوران: الخدمات التي تبيعنا إياها شركات الإنترنت هي إعادة قوّتنا المشتركة في شكل معلومة تتكيف مع كل واحد وتناسب ميوله
إن كل تلك الوعود لم تتحقق. ولفهم هذا الإخفاق، يغوص دوران في طبيعة “الهيمنة الرقمية”، ليبين أن كل شيء بدأ بالنموذج الاقتصادي الذي يشترك فيه كل نشطاء الاقتصاد الرقمي: استعمال المعطيات ومعالجتها باللوغاريتمات التي تزداد دقة كلما ازدادت المعطيات وفرة، وبذلك صار لاستراتيجيات غزو الفضاء السيبراني نفس الغاية مهما كان البزنس الأصلي، أي السيطرة على فضاءات الملاحظة والتقاط المعطيات الصادرة عن الأنشطة البشرية.
وصار منطق التوسع هذا يسيّر كل شيء، وما لبث أن ألغى الحلم الهيبّي الذي نجمت عنه الأيديولوجيا الكاليفورنية، فباتت الحوكمة اللوغاريتمية تسعى إلى إنتاج المتوقَّع باستمرار، وتحبس الفرد في عالم لا يستطيع النفاذ منه. وهذا يحيل على ما أسمته شوشانة زوبوف “رأسمالية المراقبة”، ولكن دوران يذهب أبعد من ذلك، إذ يؤكد أن ما يتمّ تجميعه ليس المعطيات في حدّ ذاتها بل ما تمثّله من قوة اجتماعية. بعبارة أخرى، عندما تمتلك الشركات تلك المعطيات، فإنها لا تكتفي بقراءتها، بل تستثمرها لخلق ما وراءها، أي خدمات جديدة، ومنتجات جديدة، وإدمان جديد.
هذه الظاهرة هي التي تسمح باستغلال القوة الجماعية لتردّها في شكل سلطة، وهنا تتجلى المسألة الإقطاعية، فالمنصّات تحوّلت إلى إقطاعات (الإقطاعة هي مجموع ما يملكه الإقطاعي من أراض وما عليها)، ليس لأنها تعيش على “أرض رقمية” مأهولة بالمعطيات فحسب، وإنما أيضا لأنها تقيم حواجز صارمة على خدماتها، تلك الخدمات التي تغدو أساسية لا غنى عنها لكونها صادرة عن القوة الاجتماعية.
شركات الإنترنت ساهمت في توليد احتكارات ضخمة تحول فيها الجموح والجرأة إلى شراهة ضارية للاستحواذ على مشاريع الآخرين
يقول دوران “الخدمات التي تبيعنا إياها تلك الشركات تتمثل أساسا في إعادة قوّتنا المشتركة في شكل معلومة تتكيف مع كل واحد وتناسب ميوله، وبذلك تجعل حياتنا مغلولة إلى خدماتها”. على غرار الإقطاعيات التي كانت قائمة على السيطرة على أرض تشدّ إليها الرعايا العاملين فيها، فقد كان الأسياد يعيشون على القوة الاجتماعية التي تستغل الأرض ويحوّلونها إلى سلطة يفرضونها على أولئك الرعايا الشبيهين بالعبيد. وكانت تلك المنظومة تسمح بتمركز السلطات السياسية والاقتصادية المتنافسة.
ويكمن منطلق هذه الإقطاعية التكنولوجية في خلق القيمة، ولكن بخلاف الريع التقليدي الناتج عن الأرض أو الاحتكارات الاقتصادية، يستند الريع غير الملموس للأصول الرقمية إلى القدرة على تنمية الأرباح بشكل متسارع، لا يستثنى من ذلك حتى الاحتكار الفكري الذي صار أقوى وسيلة للحصول على القيمة.
بيد أن هذه الرأسمالية ليس لها سوى الحلية، أي المظهر، إذ لا يمكن أن نلخّص الاقتصاد السياسي للعالم الرقمي في عملية بسيطة لمراكمة رؤوس الأموال بشكل يمكن مواجهته بتعديلات، على طريقة القوانين التي صدرت في بداية القرن العشرين لمنع الاحتكار، ذلك أن علماء الاقتصاد النيوليبراليين لا يقيمون وزنا لخصوصية الريع الرقمي الذي يمثل تغييرا في طبيعة نمط الإنتاج، ولا لعلاقة التبعية بين الأفراد والمنصات.
صحيح أن الفرد يملك حرية مقاطعة الإنترنت والاستغناء عن تلك الخدمات، ولكن الثمن هو تهميشه اجتماعيّا، على غرار الخدم الذين يرومون الفرار للتحرر من ملكية السيّد. ما يعني أن القدرة على استخلاص القيمة لم تعد اقتصادية، بوصفها خيارا لأفراد أحرار، بل تحولت إلى ظاهرة التقاط واستيلاء يُرغم فيها الفرد على دفع سهمه كي يعيش عيشة طبيعية، وهذا الإرغام لا علاقة له بالسوق، فـ”الخدمات الرقمية الكبرى هي إقطاعات لا يمكن الفرار منها” كما يقول دوران.
تجنب الانهيار
استهدى سدريك دوران بأعمال مؤرخي القرون الوسطى، ليستخلص أن الإقطاع يتسم بأولوية علاقات الهيمنة بين الأسياد ورعاياهم، وأنه كان يقوم على مبدأ عام لتركيز الثروة واستهلاكها، وأن الاستغلال الاقتصادي للسكان من قبل الطبقة الأرستقراطية كان قائما على الإكراه بدل التعاقد.
ومن ثَمّ، يمكن الحديث عن الإقطاع التكنولوجي، لأن الاقتصاد الرقمي يعتمد أولا وقبل كل شيء على آلية الاستحواذ، بل إنه سيجعل من الممكن فهم التحولات الحالية للرأسمالية بشكل أفضل، والوقوف على أثر إحلال النموذج الاقتصادي غير الإنتاجي أي الإقطاعية في نموذج إنتاج عميق هو الرأسمالية.
ويمكن أيضا التأكيد على أن التغير المصاحب لتطور تقنيات المعلومات يؤثر على أسس نمط الإنتاج ويزعزع استقرار مبادئه الأساسية، ويؤدي ظهور التكنولوجيا الرقمية إلى تعطيل العلاقات التنافسية لصالح علاقات التبعية، ما يعطل الآليات الكلية ويجعل الاستحواذ مقدّمًا على الإنتاج.
والخلاصة أن المصير الطبيعي للرأسمالية ليس مجتمع بشر أحرار كما ادعى الليبرتاريون بل هو عودة إلى شكل المجتمع الإقطاعي، وما التهليل الذي يقابل به تجديد “الستارت آب” سوى أحد عوامل التسريع بجعل الرأسمالية إقطاعية، مع نمط إنتاج جديد يخالف الرأسمالية المالية.
لقد سعى الإنسان إلى الصمود في وجه الإقطاعية، ثم تخلص منها حين أنشأ المزارعون والتجار في إنجلترا إبان القرن السادس عشر نمط إنتاج جديد سوف ينتشر لاحقا في شتى البلدان الأوروبية، والرهان الذي يطرح اليوم أمام التكنولوجيا الإقطاعية هو أن يستفيد الإنسان من دروس التاريخ كي يجنّب نفسه جرائر انهيار الرأسمالية.
– العرب-
Discussion about this post